للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن الله، تعالى ذكره، أوجب رحمته للمتقين ومغفرته للتائبين وهداه للمنيبين».

على أننا نجد الرشيد يستنّ سنّة كانت سببا فى أن تضعف هذه الخطابة على ألسنة الخلفاء، إذ طلب إلى الأصمعى أن يعدّ لابنه الأمين خطبة يخطب بها يوم الجمعة (١)، كما طلب إلى إسماعيل اليزيدى وابن أخيه أحمد أن يعدّا خطبة مماثلة يخطب بها المأمون (٢)، وبذلك سنّ للخلفاء أن يخطبوا بكلام غيرهم، وكان المأمون معروفا بالفصاحة والجهارة وحلاوة اللفظ وجودة اللهجة والطلاوة (٣)، وقد روى له ابن قتيبة ثلاث خطب (٤): أولاها فى يوم جمعة وثانيتها فى يوم الأضحى وثالثتها فى عيد الفطر وفيها يقول:

«اتّقوا الله عباد الله وبادروا الأمر الذى اعتدل فيه يقينكم ولم يحتضر الشك فيه أحدا منكم، وهو الموت المكتوب عليكم، فإنه لا تستقال بعده عشرة ولا تحظر قبله توبة، واعلموا أنه لا شئ قبله إلا دونه، ولا شئ بعده إلا فوقه. . ولا يعين على القبر وظلمته وضيقه ووحشته وهول مطلعه ومسألة ملائكته إلا العمل الصالح الذى أمر الله به فمن زلّت عند الموت قدمه فقد ظهرت ندامته وفاتته استقالته ودعا من الرّجعة إلى ما لا يجاب إليه وبذل من الفدية ما لا يقبل منه».

ومعروف أن الولاة كانوا يجمعون بين الولاية والصلاة، ويظهر أنهم أخذوا مع مر الزمن يخطبون بكلام غيرهم، وقد يندبون من قوم مقامهم فى الصلاة والخطابة، ويذكر الجاحظ عن محمد بن سليمان الباسى والى البصرة والكوفة لعهد المنصور والمهدى أنه كانت له خطبة يوم الجمعة لا يغيّرها، وهى خطبة قصيرة (٥)

ولكن إذا كانت الخطابة الدينية أخذت تضعف على لسان الولاة والخلفاء فإنها أينعت فى بيئة الوعاظ والنساك ممن كانت تزخر بهم مساجد بغداد والبصرة والكوفة، وكانوا أخلاطا من الزهاد والفقهاء والمحدّثين والمتكلمين، وكان بعضهم يلمّ بمجالس الخلفاء لوعظهم، وأحيانا كانوا يستقدمونهم، فيعظونهم حتى يبكوهم،


(١) الفرج بعد الشدة للتنوخى ٢/ ٢٠.
(٢) أغانى (طبعة الساسى) ١٨/ ٨٢.
(٣) البيان والتبيين ١/ ٩١، ١١٥.
(٤) عيون الأخبار ٢/ ٢٥٣ وما بعدها.
(٥) انظرها فى البيان والتبيين ٢/ ١٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>