للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القائل: قد كذبت وأسأت فقد كذب لأنه لم يكن الكذب منه ولا قاله والكذب شر، فقد كان من النور شر وهو هدم قولكم، وإن قلتم إن الظلمة قالت: قد كذبت وأسأت فقد صدقت، والصدق خير، فقد كان من الظلمة صدق وكذب، وهما عندكم مختلفان، فقد كان من الشئ الواحد شيئان مختلفان: خير وشر على حكمكم، وهذا هدم قولكم بقدم الاثنين (١)» أى الخير والشر وإلهيهما اللذين يؤمنون بهما. وعلى نحو ما كان يناظر المنانية ويقطعهم كان يناظر الدهرية القائلين بالدهر وخلوده وأن حركات الأفلاك لا تتناهى، ويفحمهم بمنطقه وقوة نسجه للأدلة، من ذلك أنه تعرّض لهم يوما يجادلهم فيما يزعمون من عدم التناهى فى حركات الأفلاك، وكان مما قاله لهم: «ليس تخلو الكواكب من أن تكون متساوية الحركة، لا فضل لبعضها على بعض فى السبر والقطع أو بعضها أسرع قطعا وسيرا من بعض، فإن كانت متساوية القطع فقطع بعضها أقل من قطع جميعها، وإذا أضيف قطع بعضها إلى قطع البعض الآخر كان قطع الجميع أكثر من قطع الواحد، وإن كان بعضها أسرع من بعض قطعا، فقد دخلته القلة والكثرة وما دخلته القلة والكثرة متناه (٢)» وهو تناه يدل على حدوث الحركة.

وكان يكثر من مناظرة خاله أبى الهذيل ويعلو عليه بقوة حججه، مما جعله يراوغه كثيرا ويعتلّ عليه، حتى قال له بعض مستمعيهما: «إنك إذا راوغت واعتلك وأنت تكلم النظام فأحسن حالاتك أن يشك الناس فيك وفيه، فقال: خمسون شكّا خير من يقين واحد (٣)». ومر بنا فى غير هذا الموضع بعض آرائه الفلسفية وفى الحق أنه هو وخاله وغيرهما من المعتزلة غمسوا آراءهم وتفكيرهم فى الفلسفة غمسا.

ونراه يحوّل كل شئ إلى المناظرة، فهو يناظر فى الآراء العقيدية وفى الآراء الفلسفية مما ذكرناه فى ترجمته السابقة كما يناظر فى المسائل الطبيعية وفى الحيوان. ومناظرته لمعبد فى مساوئ الديك ومحاسنه ومنافع الكلب ومضاره مشهورة وقد شغلت نحو مجلد ونصف من كتاب الحيوان للجاحظ، إذ استقصيا جميع الجوانب المتصلة بذلك استقصاء يدل على مدى الرقى الفكرى الذى رقيه العقل العربى فى العصر


(١) كتاب الانتصار لأبى الحسين الخياط (طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) ص ٣٠.
(٢) انظر كتاب الانتصار ص ٣٥.
(٣) حيوان ٣/ ٦٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>