للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العباسى. وهى وما يماثلها لم تكن تراد لنفسها وإنما كانت تراد للبرهنة على عجائب تدبير الله جل جلاله فى خلقه وما أودعه فيه من ذخائر الحكمة، كما كانت تراه للفرق بين مذاهب الدهرية ومذاهب الموحدين لا فى بحث عجائب الكون فى الحيوان فقط بل فى بحث كل صور الوجود أيضا وما يتصل بذلك من الآراء الفلسفية العميقة، ومن أجل ذلك آثر المعتزلة هذا الجدال العقلى على النسك والعبادة وجعلوه فوق الحج والجهاد (١).

وفى الحق أنهم بسطوا بهذا الجدال وما اتصل به من مناظرة العقل العربىّ إلى أبعد غاية، فقد أمدّوه بسيول من دقائق المعانى وخفيات البراهين، وجعلوه عقلا جدلا ما يزال ينقب عن خبيئات الأفكار، وما يزال يجلب من أعمق الأعماق دررها الباهرة. وقد تعاوروا على الأشياء المشهورة يصحّحونها ويسددونها، وتعاور معهم كثير من معاصريهم الذين مضوا يتقنون على شاكلتهم الحوار فى كل شئ.

ومن طريف ما يصوّر ذلك أن نجد الجاحظ يذكر أن شخصا يسمى جعفر بن سعيد كان يفضل الديك على الطاووس، كأنه يريد أن يعكس ما شاع عند الناس من جمال الطواويس، ويسوق الجاحظ ما كان يقوله فى ذلك على هذا النمط (٢):

«كان جعفر بن سعيد يزعم أن الديك أحمد من الطاووس وأنه مع جماله وانتصابه واعتداله وتقلعه (٣) إذا مشى سليم من مقابح الطاووس ومن موقه (٤) وقبح صورته! ومن تشاؤم أهل الدار به ومن قبح رجليه ونذالة مرآته. وزعم أنه لو ملك طاووسا لألبس رجليه خفّا. وكان يقول: وإنما يفخر له بالتلاوين وبتلك التعاريج والتهاويل التى لألوان ريشه، وربما رأيت الديك النّبطى وفيه شبيه بذلك إلا أن الديك أجمل لمكان الاعتدال والانتصاب والإشراف وأسلم من العيوب من الطاووس. وكان يقول: ولو كان الطاووس أحسن من الديك النبطى فى تلاوين ريشه فقط لكان فضل الديك عليه بفضل القدّ والخرط وبفضل حسن الانتصاب وجودة الإشراف أكثر من مقدار فضل حسن ألوانه على ألوان الديك ولكان السليم من العيوب فى العين أجمل لاعتراض تلك الخصال القبيحة على حسن الطاووس


(١) حيوان ١/ ٢١٦.
(٢) حيوان ٢/ ٢٤٣.
(٣) التقلع: التحدر فى المشى.
(٤) الموق: الحمق.

<<  <  ج: ص:  >  >>