للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نحن إذن بإزاء مدرسة تامة من الشعراء الرواة تتسلسل فى طبقات أو حلقات، وكل حلقة تأخذ عن سابقتها وتسلم إلى لاحقتها، ومن أهم ما يلاحظ فى هذه المدرسة أن شعراءها أو رواتها كانوا من قبائل مختلفة فى شرقى الجزيرة وغربيها، ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن شعراء القبيلة الواحدة كان يروى خلفهم شعر سلفهم، ونصّ القدماء على ذلك فى غير شاعر، فقالوا إن الأعشى كان رواية لخاله المسيّب بن علس وكان يأخذ منه (١) وقالوا إن أبا ذؤيب الهذلى كان راوية لساعدة بن جؤية الهذلى (٢)، ومن يقرأ ديوان الهذليين يجد أواصر فنية قوية تجمعهم وتربط بينهم. وعلى هذا القياس توجد وشائج واضحة بين شعراء قيس بن ثعلبة، فطرفة يروى للمرقش الأصغر عمه ويأخذ عنه، ويروى هذا عن عمه المرقش الأكبر ويحتذى على شعره. وأيضا فإن طرفة كان يروى عن خاله المتلمّس الذى ربى فى أخواله من بنى يشكر. وقد لا تكون القبيلة الجامعة الواصلة، فقد يجمع بين الشعراء سلوك فى الحياة كالصعاليك أو الفرسان فيروى بعضهم لبعض، ويأخذ بعضهم عن بعض، على نحو ما نلاحظ عند تأبط شرا والشنفرى أو عند أبى دؤاد الإيادى وزيد الخيل.

ولو أن الرواة لم يرووا لنا هذه الصلات الجامعة أو الرابطة بين الشعراء الجاهليين لحدسناها حدسا من اتفاقهم على تقاليد فنية واحدة مهما شرقنا وغربنا فى الجزيرة، وهى تقاليد جاءت من تمسكهم بنماذج أسلافهم لا يحيدون عنها ولا ينحرفون، فهى دائما الإمام المتبع، وهمّ كل شاعر أن يتقن معرفتها عن طريق ما يحفظ من شعر أستاذه وشعراء قبيلته، بل أيضا شعراء القبائل الأخرى. ولم يكن الشعراء وحدهم الذين يهتمون برواية هذا الشعر، فقد كان يشركهم فى ذلك الاهتمام أفراد القبيلة جميعهم، لأنه يسجل مناقب قومهم وانتصاراتهم فى حروبهم كما يسجل مثالب أعدائهم، وإلى ذلك أشار بعض بنى بكر معيّرا تغلب لكثرة تردادها لقصيدة واحدة هى معلقة عمرو بن كلثوم، وكأن ليس لها شعر سواها، يقول (٣):

ألهى بنى تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم


(١) الشعر والشعراء ١/ ١٢٧ والموشح للمرزبانى ص ٥١.
(٢) الشعر والشعراء ٢/ ٦٣٥
(٣) أغانى ١١/ ٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>