للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يروونها أبدا مذ كان أولهم ... يا للرّجال لشعر غير مشئوم

ولم يكن أبناء القبيلة وحدهم الذين يشيعون شعر شعرائها، فقد كان كثير من أفراد القبائل الأخرى يشتركون معهم فى إشاعته، إذ كان بينهم جم غفير من الحفظة، كانوا يتناقلون الشعر وينشدونه فى محافلهم ومجالسهم وأسواقهم، إذ لم يكن لهم شاغل سواه، وكان يسجل مآثرهم ومثالبهم وأنسابهم وأيامهم وأخبارهم، ومن ثم قال عمر بن الخطاب: «كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه (١)» فهو كل علمهم وكل حياتهم.

وجاء الإسلام فانكبّوا على تلاوة القرآن الكريم، ولكن لم ينسوا شعرهم أبدا، حتى منذ بدء الدعوة الإسلامية، فقد كان الرسول عليه السلام يستحث حسان ابن ثابت وغيره من شعراء الأنصار على هجاء قريش والرد على شعرائها، وكان كثيرا ما يستنشد الصحابة الشعر، حتى شعر أعدائه من مثل أمية بن أبى الصّلت، قال الشريد بن سويد الثقفى: «استنشدنى النبى صلى الله عليه وسلم شعر أمية بن أبى الصلت فأنشدته، فأخذ النبى صلى الله عليه وسلم يقول: هيه، هيه، حتى أنشدته مائة قافية (٢)». وكان أبو بكر نسابة راوية للشعر الجاهلى، وكان يتمثل به أحيانا فى خطابته كخطبته المشهورة فى يوم السقيفة، وكذلك كان عمر، وقلما كان يترك وافدا عليه من قبيلة دون أن يسأله عن بعض شعرائها، وفيه يقول ابن سلام:

«كان لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر (٣)».

وهذا نفسه شأن الصحابة جميعا، فقد كانوا كثيرا ما يتناشدون الأشعار ويقصون بعض الأخبار عن جاهليتهم، قال جابر بن سمرة: «جالست رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أكثر من مائة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الأشعار فى المسجد وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم (٤)».

ومعنى ذلك أن رواية الشعر الجاهلى كانت مستمرة فى صدر الإسلام، وقد أخذت تظهر عوامل تشدّ من أزرها وتقوى من شأنها، فقد أخذت تنشأ منذ


(١) طبقات فحول الشعراء ص ٢٢.
(٢) ابن سعد ٥/ ٣٧٦ وخزانة الأدب ١/ ٢٢٧ والمزهر ٢/ ٣٠٩.
(٣) البيان والتبيين ١/ ٢٤١.
(٤) طبقات ابن سعد ١/ ٢: ٩٥ وما بعدها

<<  <  ج: ص:  >  >>