للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبرقة الذهن قبل المخاطبة وبدقة المذهب قبل الامتحان، وبالنبل قبل التكشف (١)» ووصفه الحسن بن سهل وزير المأمون فقال: «وازن العلم، واسع الحلم، إن حودث لم يكذب، وإن موزح لم يغضب، كالغيث أين وقع، وكالشمس حيث أولت، أحيت، وكالأرض ما حمّلتها حملت، وكالماء طهور لملتمسه وناقع لغلّة من حرّ (٢) إليه، وكالهواء الذى تقطف منه الحياة بالتنسم، وكالنار التى يعيش بها المقرور، وكالسماء التى قد حسنت بأصناف النور». ويقول ابن النديم إنه كان «شعوبى المذهب، شديد العصبية على العرب، وله فى ذلك كتب كثيرة ورسائل فى البخل» وكأنه أراد بتلك الرسائل أن ينقض فضيلة الكرم العربية. وكان البخل سجية وطبعا ركّب فيه، ورويت عنه فى ذلك نوادر كثيرة، منها أن شخصا لقيه، فقال له:

هب لى ما لا ضرربه عليك، فقال: وما هو يا أخى، قال: درهم، فقال سهل:

لقد هوّنت الدرهم، وهو طائع الله فى أرضه لا يعصى، وهو عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف دية المسلم، ألا ترى إلى أين انتهى الدرهم الذى هوّنته، وهل بيوت الأموال إلا درهم على درهم. فانصرف الرجل، ولولا انصرافه لم يسكت سهل. ومن حكاياته العجيبة فى البخل ما حكاه دعبل، قال: «كنا عنده يوما، فأطلنا القعود ولم نبرح، حتى كاد يموت جوعا، فلما اضطررناه قال: يا غلام ويلك غدّنا، فأتاه بصحفة فيها مرق تحته ديك هرم لا تحزّ فيه السكين ولا تؤثر فيه الأضراس، فاطّلع فى الصحفة وقلّب بصره فيها، ثم أخذ قطعة خبز يابس، فقلّب جميع ما فى القصعة، حتى فقد الرأس من الديك. فبقى مطرقا ساعة، ثم رفع رأسه إلى الغلام، فقال: أين الرأس؟ فقال: رميت به، قال سهل: ولم رميت به؟ قال: لم أظنك تأكله، قال: ولأى شئ ظننت أنى لا آكله؟ فو الله إنى لأمقت من يرمى برجليه، فكيف من يرمى برأسه، ثم قال له: لو لم أكره ما صنعته إلا للّطيرة (التشاؤم) والفأل لكرهته، الرأس رئيس وفيه الحواس الخمس، ومنه يصبح الديك، ولولا صوته ما أريد، وفيه فرقه الذى يتبرّك به، وعينه التى يضرب بها المثل، يقال شراب


(١) البيان والتبيين ١/ ٨٩.
(٢) حر: عطش، والصفة حران.

<<  <  ج: ص:  >  >>