للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا تعدو دور النشأة البسيطة.

وأدّى بؤس هذه الطبقة العامة إلى أن ينشأ فيها كثير من القرّادين وأصحاب الملاهى الصغيرة الطّوّافين والحوّائين كما ينشأ فيها كثير من المهرجين الذين ينقطعون لإضحاك الطبقتين الوسطى والعليا، وكان منهم من يتصل بخليفة أو وزير فتبتسم له الدنيا. ونشأ فيها أيضا كثير من راضة الخيل والسوّاس وأصحاب القنص والصيد بالكلاب والفهود. ونشأت طبقة من الأدباء المتسولين المسمون بالمكدين، وكانوا حينئذ خليطا من هؤلاء الأدباء ومن متظاهرين بالنسك، مستعملين كل حيلة من شعر أو تقى أو رقية، فهم يطلبون المال من كل طريق، مستخدمين كل حيلة. ويدل دلالة قوية على ما كانت تعانيه هذه الطبقة العامة من البؤس والعيش المر أن كثر بها اللصوص، حتى غدوا فى أوقات كثيرة مصدر خطر عظيم ببغداد، لكثرتهم، ولشدة فتكهم، ويشير الجاحظ إليهم فى كتاباته مرارا كما يشير إلى رؤسائهم وأنه كانت لهم مروءة الفرسان، وكأنهم كانوا امتدادا لصعاليك الجاهلية (١).

ووراء تلك الطبقات الدنيا والوسطى والعليا كان هناك عدد ضخم من أهل الديانات الأخرى، من النصارى واليهود والمجوس والصابئة، وكانوا يسمون أهل الذمة إشارة إلى أنهم فى ذمة الإسلام وعهده ورعايته وما وضعه من مبادئ التسامح الرائع، فإذا هم يصانون ويحرسون ويحرس نساؤهم وأسرهم، حتى ليصبح لكل أهل ملة منهم كيانهم الخاص فلهم معابدهم ولهم رؤساؤهم الدينيون:

للنصارى مثلا الجاثليق والبطرك. ولهم محاكمهم الخاصة التى تفصل بينهم فى خصوماتهم. تسامح لم يعرفه دين ولم تعرفه أمة قبل الإسلام، ولا ظلم ولا جور، بل عدالة مطلقة تعمهم وحماية بدون حدود، وليس عليهم للدولة إلا ضريبة مالية محدودة هى الجزية التى لم يكن يدفعها إلا القادر على حمل السلاح، أما المريض بعلة لا برء منها وذوو العاهات والأطفال والنساء والشيوخ ورجال الدين فى كل ملة فلا يؤدون شيئا، ولم تكن هذه الضريبة أو الجزية تتعدّى ثلاثة دنانير لأصحاب


(١) انظر قصة خالد بن يزيد فى مطالع كتاب البخلاء

<<  <  ج: ص:  >  >>