للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقائها وصعب عليه الصبر عنها، فأتى عبادة، ووجد الجارية ورفاقه يعاتبونه على تأخره عنهم وعن صاحبته، ولم يلبث أن أنشأ يقول:

لو تشكّى أبو عمير قليلا ... لأتيناه من طريق العياده

فقضينا من العيادة حقّا ... ونظرنا فى مقلتى عباده

فقال أبو عمير: مالى ولك يا أخى، انظر فى مقلتى عبادة متى شئت غير ممنوع، ودعنى أنا فى عافية لا تتمنّ لى المرض لتعودنى (١). وواضح من امتناع ابن البواب عن زيارة أبى عمير حين ألمت به ضيقة أن الشعراء وغيرهم حين كانوا يختلفون إلى دور النخاسين كانوا يحملون معهم كثيرا من الهدايا للنخاسين وجواريهم، مما كان يكلفهم أموالا كثيرة، وإلى ذلك يشير الجاحظ فى رسالته عن القيان إذ يذكر عن النخاس «أن من فضائله أن الناس يقصدونه بالرغبة كما يقصد بها الخلفاء والعظماء فيزار ولا يكلّف الزيارة، ويوصل ولا يحمل على الصلة، ويهدى إليه ولا تقضى منه الهدية» (٢) ويصور الجاحظ تفنن الجارية فى اللعب بألباب الرجال، إذ لا تزال تنصب أشراكها باللحظ والبسم وإظهار الشوق إلى طول مكث من يختلف إليها والحزن لفراقه والصبابة لسرعة عودته، فإذا أحسّت أنه وقع فى الشّرك أوهمته أنها تعلّقت به وأنه شجوها فى فكرها وضميرها وليلها ونهارها وأنها لا تريد سواه ولا تؤثر أحدا على هواه وأنها لا تبتغيه لماله وهداياه وإنما لنفسه، ثم جمّشته بعضوض تفاحها ونحيات من ريحانها وزوّدته بخصلة من شعرها وقطعة من ثيابها، يقول الجاحظ وربما زارته فى بيته وأمكنته من القبلة فما فوقها. لذلك لا نعجب حين نراهن يسعرن قلوب الشعراء، وحين نرى الشعراء عاكفين عليهن وقد بذلن لهن كل ما استطاعوا من هدايا وتحف وطرف نفيسة، وفى ذلك يقول على بن الجهم متحدثا عن جوارى نخّاس يسمى المفضل وابتزازهن وابتزاز صاحبهن أموال من يزورونهن (٣):

أوانس ما فيهنّ للضيف حشمة ... ولا ربّهن بالمهيب المبجّل


(١) أغانى (ساسى) ٢٠/ ٤٣.
(٢) رسائل الجاحظ نشر فنكل ص ٧٣.
(٣) ديوان ابن الجهم (نشر المجمع العلمى العربى بدمشق) ص ٥٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>