بالقوة يكمن فى داخل الإنسان، وعقل بالملكة هو العقل المنفعل بعد حصول المعقولات فيه، وعقل مبين يؤدى للغير معقولاته. ومما قرره أن الحواس تدرك الجزئيات والصور المادية فى حين أن العقل يدرك الكليّات وما يتصل بها من الأنواع والأجناس. وذهب إلى تناهى الجسم والزمان والحركة من جهة الفعل لا من جهة القوة، وهاجم الكيمياء هجوما عنيفا، وأكبر الظن أنه إنما كان يقصد ضربا خاصّا من الكيمياء شاع فى عصره، هو المتصل بالسحر والخرافه وكشف الأسرار.
وإذا كان العصر قد افتتح بفيلسوف هو الكندى فإنه اختتم أيضا بفيلسوف له مكانة كبيرة فى الفلسفة الإسلامية هو الفارابى (١) أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان المتوفى سنة ٣٣٩ ويقال إنه من أصل فارسى، ولد فى فاراب من بلاد الترك فيما وراء النهر. ويبدو أنه تلقن فى نشأته ما كان فى خراسان من علوم الأوائل وسرعان ما مضى يطلبها فى بغداد، وأكبّ على الرياضيات والطبيعيات والإلهيات واستوعب ذلك كله استيعابا منقطع القرين، وسرعان ما أخذ يوفق بينه وبين الدين الحنيف من جهة وبينه وبين العقل الذى أكبره الكندى من جهة أخرى، واستطاع أن ينفذ من خلال ذلك إلى تشكيل الفلسفة الإسلامية فى صورتها المبكرة، بحيث عدّ فيلسوف المسامين غير مدافع. ولعل أول ما يلاحظ على فلسفته أنها تعنى بالإلهيات، فهو لا يعنى بالطبيعيات، وهو يرغب عن فيثاغورس وأضرابه من الرياضيين. ويتضح إكباره العقل فى اهتمامه بالمنطق وما يؤدى إليه من استنباطات كلية مما جعله يعنى بشرح كتبه عند أرسطو وتفصيل مسائله من تصور وتصديق وقضايا وبراهين وأقيسة ومراتب ظنّ متفاوتة، ويتعمق فى بحث الكليات.
وفى كل جانب من فلسفته الإلهية يتضح فكره العقلى المنطقى، من ذلك ذهابه إلى أن كل موجود إما واجب الوجود وإما ممكن، وبذلك جعل أول صفة لله هى أنه
(١) راجع فى الفارابى الفهرست ص ٣٨٢ والقفطى ص ٢٧٧ وابن أبى أصيبعة ص ٦٠٣ ودائرة المعارف الإسلامية وبحثا للمرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق فى الجزء السابع من مجلة المجمع العلمى العربى بدمشق ودى بور ص ١٩٢ ومقدمة ديتريصى لرسائله (طبعة ليدن)، وانظر مجموعة أخرى طبعت فى حيدرآباد وظهر الإسلام لأحمد امين (الطبعة الأولى) ٢: ١٣١.