ملاحظات بلاغية على ما يكسب الكلام حسنا وجمالا حتى إذا ظهر مسلم بن الوليد اتخذ ما اكتشفه الأدباء من محسنات مذهبا وأطلق عليه لأول مرة اسم البديع، وكان يشمل وجوه حسن بيانية وبديعية، وأخذ اللغويون من أمثال الأصمعى وأبى عبيدة فى هذه الأثناء يبدون بعض ملاحظات على وجوه الحسن فى الكلام، وألف الأصمعى كتابا فى التجنيس وسجل بعض ألوان هنا وهناك مثل الطباق والالتفات، فى حين عنى أبو عبيدة معاصره-وخاصة فى كتابه «مجاز القرآن-ببيان بعض الخصائص البلاغية مثل التقديم والتأخير والتشبيه والكناية والاستعارة. وأخذ المتكلمون-وخاصة المعتزلة-يعنون بالبحث فى وجوه البلاغة، وجعلهم ذلك يحاولون التعرف على ما عند الأمم الأجنبية منها وأضافوا إليه كثيرا من ملاحظاتهم. ومضى اللغويون والأدباء طوال القرن الثالث للهجرة يحاولون التعرف على مواطن الجمال والبلاغة فى الكلام، ونثر ابن قتيبة فى كتابه: «تأويل مشكل القرآن» ملاحظات متنوعة عن الخصائص البيانية والأسلوبية، على حين ألم المبرد فى كتابه «الكامل» بالكناية والتشبيه، وفصّل القول فيهما تفصيلا جيدا، وانسابت من ذلك كله مسارب إلى كتاب قواعد الشعر لثعلب. غير أن هذه الجهود كلها ليست شيئا بالقياس إلى ما نثره الجاحظ المعتزلى المتكلم المتوفى سنة ٢٥٥ فى كتابيه «البيان والتبيين» و «الحيوان» وهو يتحدث طويلا عن فكرة مطابقة الكلام لمقتضى الحال التى شاعت فيما بعد عند البلاغيين، ويتسع فى الحديث عن الإيجاز والإطناب ومواضعهما وعن أصوات الكلام وموسيقاه ومواقع الألفاظ ومواضعها التى لا تعدوها وعن السجع والازدواج والاقتباس، وحلل الاستعارة بأقسامها المختلفة تحليلا بديعا، وألم بالتشبيه وبكثير من فنون البديع واستنبط فنّا جديدا منها هو المذهب الكلامى. وبذلك كان يعدّ المؤسس الحقيقى لمباحث البلاغة العربية.
وأخذت تتضح منذ مطالع العصر بيئات (١) ثلاث تتناول كل منها البلاغة تناولا متميزا، وهى بيئة اللغويين المحافظين وبيئة المتفلسفين والمترجمين المجددين وبيئة المعتزلة المعتدلين، أما البيئة الأولى فكانت تحاول بكل ما استطاعت
(١) انظر فى هذه البيئات كتاب البلاغة تطور وتاريخ (طبع دار المعارف) ص ٦٢ وما بعدها.