وإذا كانت البلاغة خطت خطوات واسعة فى سبيل تحولها إلى علم فى هذا العصر فكذلك النقد خطا بدوره خطوات كثيرة نحو تقنين مسائله، ولا بد من ملاحظتين قبل الحديث فيه، أولاهما أن أكثر الكتب التى عرضنا لها فى البلاغة عرضت له، وثانيتهما أن البيئات اللغوية والاعتزالية والفلسفية التى تحدثنا عنها فى البلاغة هى نفسها التى حاولت أن تشرّع النقد وأن تضع له معاييره ومقاييسه. وأولى هذه البيئات البيئة اللغوية المحافظة، وقد هاجم الجاحظ ذوقها فى غير موضع من كتاباته (١)، ولعله كان يأخذ عليها اهتمامها بالغريب فى الأشعار ونسيانها أو إهمالها جوانب الجمال والبلاغة فيها، مما جعله يؤلف كتابه «البيان والتبيين» على نحو ما مرّ بنا فى غير هذا الموضع. ومن المحقق أن روحها كانت محافظة، ولكن من المحقق أيضا أنها هى التى نقدت الشعر القديم لأول العهد به، وهى التى ميزت وثيقه من منحوله، مع كثير من الأحكام واللفتات النقدية الجديدة، ولعل كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام المتوفى سنة ٢٣١ خير ما يصور عمل هذه البيئة المحافظة حتى عصره، ونراه يعرض فيه قضية الانتحال فى الشعر القديم عرضا علميّا رائعا، موضحا عبث القبائل والرواة المختلفين به ومدى ما دخله من فساد، ثم تقدم يضع الشعراء فى طبقات حسب جودتهم الفنية، راويا لكل منهم كثيرا مما صححته البصرة له وخاصة فى العصر الجاهلى. ونمضى إلى العصر العباسى الثانى فنلتقى بثعلب وكتابه «قواعد الشعر» وهو كتيّب مدرسى جافّ وزّع فيه الشعر توزيعا نحويّا على أربعة أنواع: أمر ونهى وخبر واستخبار، وتحدث عما تجرى فيه من أغراض الشعر ومن التشبيه، وعرض لبعض ملاحظات نقدية سطحية، وليس فى الكتاب نظرية نقدية، إنما هى لمحات سريعة، وقد سمى الطباق الأضداد وسمى الجناس المطابق، وتابعه فى التسمية الأخيرة قدامة. والكتاب لا يضيف إلى النقد العربى شيئا ذا قيمة يمكن الوقوف عنده. وفى الحق أن البيئة اللغوية أخذت تتخلف فى مجال النقد، على نحو ما تخلفت فى مجال الدراسات البلاغية، إذ لم يعد يلقانا فيها سوى ملاحظات طائرة كأن نجد عند المبرد فى كتابه «الكامل» كلمة هنا أو هناك