لا فى الألفاظ وحدها، بل أيضا فى الأساليب، ويلاحظ أن للأديب شاعرا أو ناثرا معجمه اللغوى الخاص، وهى ملاحظة دقيقة، وعرض طويلا للفظ وفصاحته وجزالته ورقته وتناسبه مع ما قبله وما بعده فى الكلام حتى لكأن واشجة من الرحم تربط بينه وبين الأسرة اللفظية التى يسلك فيها. وأنكر الترادف ذاهبا إلى أن لكل لفظة معناها الخاص الذى يفترق قليلا أو كثيرا عن معنى أو معانى مرادفها، وعاب مرارا التكلف وفرق بينه وبين التنقيح. وجعله إعجابه باللفظ المونق يشيد به مضائلا من المعانى وقيمتها، وكأنما كان يريد أن يسقط إلى الأبد ما تقوله الشعوبية عن كثرة المعانى فى الآداب الأعجمية؛ وكذلك ما تقوله البيئة المتفلسفة عن المعانى الفلسفية اليونانية، إذ هى تحمل أفكارا صحيحة، ولكن ينقصها جمال الصياغة وحسن السبك والرصف والنظم. ومع إعجابه بالشعر العربى القديم كان يعجب بالشعر الحديث، حتى ليفضّل أبا نواس على كل من سبقه من الشعراء (١). وهو معنى ما نقول من اعتدال المعتزلة وأنهم كانوا يوازنون بين القديم والحديث وبين معايير النقد العربى واليونانى ملائمين بين ذلك كله نافذين إلى نقد عربى عباسى حديث.
وأفاد ابن قتيبة من نظرات الجاحظ النقدية إفادة واسعة، مع أنه لم يكن من المعتزلة بل كان من أهل السنة، ولكنه اشترك معه كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع فى الرد العنيف على الشعوبية، ونراه يكتب مقدمة طويلة لكتابه الشعر والشعراء يضمنها كثيرا من آرائه النقدية، وتارة يوافق الجاحظ فى بعض آرائه وتارة يخالفه، فمما وافقه فيه رفض معيار القدم والحداثة فى الحكم على الشعراء فلا ينظر إلى متقدم بعين الجلالة ولا إلى متأخر بعين الاحتقار، بل يوزن كل منهما بموازين الجودة الفنية الدقيقة. ووافقه فى فكرة الطبع والتكلف، واستعار قبسا من فكرته عن المطابقة بين الكلام وأحوال النفس استضاء به فى بيان الدوافع النفسية التى تبعث على قول الشعر كالطمع والغضب والشوق والطرب، كما استعار قبسا من فكرة
(١) الحيوان ٢/ ٢٧ وانظر فى تحليلنا لآرائه كتاب البلاغة: تطور وتاريخ ص ٤٦ وما بعدها وكتابنا «النقد» (طبع دار المعارف) وقد أشرنا فيه إلى حديثه عن السرقات، وهو أول من فتح بابها على مصراعيه للنقاد، وقد أخذوا فى أواخر هذا العصر يخصون بعض الشعراء بمباحث مستقلة فيها مثل كتاب سرقات أبى نواس ليموت ابن المزرع المتوفى سنة ٣٣٤ وسرقات البحترى لأحمد بن أبى طاهر المتوفى سنة ٢٨٠.