على أمثال هؤلاء المفسرين، وكان طبيعيّا ألا يقفوا عند تفسير آيات بعينها تخالف آراءهم الاعتزالية، بل يحاولوا بسط هذه الآراء فى تفسير القرآن جميعه، وأول تفسير عندهم هو تفسير أبى بكر الأصم المتوفى حوالى منتصف القرن الثالث وتفسيره مفقود، وأهم منه تفسير أبى على الجبّائى محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة ٣٠٣، وهو بيد بعض المحققين بالقاهرة فى سبيل نشره، ولا بد أنه يمتلئ بالتأويلات الاعتزالية، ولا ريب فى أن الزمخشرى انتفع به فى تفسيره انتفاعا كبيرا.
وتأويلات المعتزلة لآى الذكر الحكيم إنما كانت تأويلات عقلية، وكان وراءهم فريقان يؤولان القرآن تأويلات اعتقادية، وهم الشيعة والصوفية، وكان الشيعة يخرجون عن ظاهر القرآن ملتمسين تأويلات بعيدة، إذ يذهبون إلى أن لفظا بعينه يقصد به علىّ أو غيره من أئمتهم وأن لفظا آخر يقصد به خصم من خصومهم، وصور ذلك ابن قتيبة عنهم. فقال إن منهم من يزعم أن الجبت والطاغوت فى الآية رقم ٦٠ من سورة النساءهما معاوية وعمرو بن العاص (١). ونسبوا لأئمتهم تفسيرات مبكرة، فى مقدمتها تفسير نسبوه إلى جعفر الصادق المتوفى سنة ١٤٨ وتفسير ثان نسبوه إلى الحسن العسكرى المتوفى سنة ٢٦٠ وهو آخر الأئمة الظاهرين عند الإمامية.
وتفسيراتهم من هذه الناحية تطبع بطابع الرواية عن أئمتهم وآل البيت بعامة.
أما تأويل المتصوفة حينئذ فلم يكن يبعد عن ظاهر اللفظ بعد التفسير الشيعى، إذ كان كل مأربه أن يوضّح من خلال بعض الآيات بعض الأفكار الصوفية، وربما كان أقدم تفسير لهم هو تفسير سهل التّسترىّ المتوفى حوالى سنة ٢٨٣ ونراه فى آية سورة النور: {(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} -إلى قوله: {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)} يجعل النور المحمدى فى سابق الأزل أساسا للآية. وكأن سهلا سبق الحلاج فى فكرة النور المحمدى الأزلى.
وقد عرضنا فى كتاب العصر العباسى الأول لتطور منهج التأليف فى الحديث النبوى وأنه بدأ بتصنيفه على أبواب الفقه غالبا. وأن خير ما يصور هذه الطريقة
(١) انظر تفسير غلاة الشيعة فى كتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ٨٤.