للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك حكايات أخرى عجيبة (١). ومن طريف ما يروى فى هذا الجانب أن أبا داود صاحب السنن المذكور آنفا كان له ابن من حفاظ الحديث هو عبد الله قدم سجستان ذات مرة، فسألوه أن يحدّثهم، فقال لهم: ليس معى أصل، فقالوا متعجبين: ابن أبى داود وأصول! وأثاروه، فأملى عليهم ثلاثين ألف حديث من حفظه، وعاد إلى بغداد فوجد المحدّثين يذكرون قصته مع غير قليل بن الريبة، ولم يلبثوا أن أرسلوا إلى سجستان من يكتب لهم نسخة من الأحاديث التى أملاها، فكتبت وجئ بها، وعرضت على الحفاظ، فخطّأوه فى ستة أحاديث، منها ثلاثة حدّث بها كما سمعها، وثلاثة أخطأ فيها، وكأنه لم يخطئ فى كل عشرة آلاف حديث إلا فى حديث واحد (٢).

ولا بد أن نقف قليلا عند البخارى ومسلم لنرى مبلغ دقتهما فى رواية الحديث ورفضهما لضعيفه، أما البخارى (٣) محمد بن إسماعيل فقد أمضى ستة عشر عاما يجمع صحيحه من أفواه الرواة الثقات فى مختلف الأمصار، وكل حديث معه سنده من زمنه إلى زمن الصحابى راويه الأول، وهو يدرس ويفحص، حتى لا يروى إلا الحديث الصحيح الذى لا يرقى إليه شك، يفحص المتون ويفحص الرواة ليعرف المتهم من الوثيق عقيدة رقوة حافظة وخلوا من شوائب الكذب والغفلة، ولذلك كان طبيعيّا أن يؤلف تاريخه الكبير فى الرجال، ويروون عنه أنه كان يقول:

«قلّ اسم فى التاريخ إلا وله عندى قصة» وكان عفّ اللسان لا يشتد فى تجريح المتهمين من الرواة، بل يكتفى بمثل قوله: «فيه نظر» أو «سكتوا عنه» أو «هو منكر الحديث». وجمع فى صحيحه-كما يقول ابن حجر فى مقدمته لشرحه عليه-٧٣٩٧ حديثا وإذا أضفنا إلى ذلك الأحاديث التى استأنس بها بلغت أحاديثه ٩٠٨٢، ويقال إنه انتخبها من نحو مائتى ألف حديث محكّما فى انتخابه شروطا غاية فى الشدة، حتى يحيطها بأقوى سياج من الصحة والثقة. وأول شروطه


(١) طبقات الشافعية ٢/ ٢١٨.
(٢) السبكى ٣/ ٣٠٨.
(٣) انظر فى ترجمته تهذيب التهذيب ٩/ ٤٧ وشذرات الذهب ٢/ ١٣٤ وطبقات الحنابلة بن أبى يعلى (طبع القاهرة) ١/ ٢٧١ وكتاب الجرح والتعديل لابن أبى حاتم (طبع حيدرآباد) ق ٢ ج ٣ ص ١٩١ ووفيات الأعيان لابن خلكان (طبعة محمد محيى الدين عبد الحميد) ٣/ ٣٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>