للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتقاليد أدبية موروثة قلدوها وحاكوها. ونفس هذه المحاكاة تدل على وجود أصل كانوا يحاكونه، إذ لا يمكن أن يحاكوا شيئا لم يبق منه ما يتيح لهم هذه المحاكاة، وإذن فلابد أن يكون هناك شعر جاهلى عرفه الإسلاميون وحاكوه، وحقا دخله انتحال أمثال حماد وخلف، ولكن وراء انتحالهم شعر صحيح، ينبغى أن نهتدى فى معرفته بالرواية الوثيقة وصفاته الشخصية والأسلوبية المميزة. ونراه يعود إلى هذا الموضوع فى مقدمته لديوان عبيد بن الأبرص، فيؤكد أن رواية هذا الشعر استمرت حية نشطة من الجاهلية إلى أن دوّن نهائيا فى العصر العباسى، وقد يكون أصاب قصائده بعض التغيير ولكن من يرجع إلى المعلقات مثلا يجد لكل منها شخصيتها الواضحة التى تنفرد بها والتى تثبت أنها لصاحبها، وأعاد ما قاله فى المقدمة الأولى من أن تقاليد شعر القرن الأول الهجرى تلزم بوجود الشعر الجاهلى الذى يشترك معها فى نفس التقاليد، وأيضا فإن فيه من الألفاظ الغريبة ما لم يكن يستخدم فى عصر هؤلاء الرواة ممن دونوه مما يدل دلالة قاطعة على أنه صحيح فى جوهره.

ولا يزال المستشرقون إلى اليوم يختلفون فى قبول هذا الشعر بحذر والشك فيه شكا معتدلا أو معطرفا، وممن أدلى بدلوه منهم فى هذا الموضوع بلاشير فى الجزء الأول من كتابه:

تاريخ الأدب العربى، إذ تحدث طويلا مبينا بل مجسما الشبهات، وبينما يحاول الاعتدال أحيانا إذا به يهجم هجوما عنيفا (١) ومن ألوان هجومه قوله: «نحن نجد فى النصوص المذكورة أن الشعراء أيا كان عصرهم أو قبائلهم يستعملون لغة موحدة منزهة بصورة عامة عن كل أثر لهجى، خاضعة لقواعد تركيبية، هى بصورة مجملة قواعد نحاة البصرة، ولا شك فى أن القصائد الجاهلية جرّدت بتأثير الرواة الكبار عن كثير من الظواهر اللهجية، كما أن التثبيت الكتابى بدوره أتم توحيد اللغة وحتى الأسلوب (٢)» ويقول: «كل شئ يدعونا إلى الاعتقاد بأن كبار الرواة ومعهم علماء العراق قد أجروا فى الشعر القديم إصلاحات ذات صبغة جمالية (٣)» ثم يقول: «والمدهش هو تعدد الروايات واتساعها داخل كل بيت، ولا ريب فى أنها ناشئة عن ضعف الذاكرة فى أثناء الرواية الشفوية وأن عددا قليلا منها ناشئ عن عدم اكتمال طريقة الكتابة أو عن استبدالات فى المترادفات.


(١) بلاشير ص ١٨٣ وما بعدها.
(٢) بلاشير ص ١٨٨.
(٣) بلاشير ص ١٨٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>