للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وما من شئ يجيز لنا التأكيد بأن هذه الفروق الجزئية ليست قديمة ولا تصعد إلى ظهور الأثر نفسه (١)» وينتهى من ذلك إلى أن «دراسة النصوص الشعرية (يقصد الصحيحة) تقودنا إلى وضع مبدأ يقضى بعدم امتلاكنا أى أثر شفوى فى شكله الأصيل. . ونحن نعلم لكى تتم المأساة أن المقلدات قد امتزجت بالأصول القديمة التى يختلف تحريفها قلة أو كثرة دون أن نتمكن فى كثير من الأحيان من كشف هذه الانتحالات (٢)».

وواضح أن بلاشير يزعم أن الأصول الصحيحة للشعر الجاهلى اختلطت بالنماذج والقصائد الموضوعة اختلاطا يتعذر معه أن تميّز، وهو زعم مبالغ فيه، لأن هذه الأصول كما قدمنا وصلتنا عن رواة ثقات، وأجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على توثيقها، بحيث لا يرقى إليها الشك. وهو يزعم أيضا أن الرواة ونحاة البصرة عدّلوا فى هذه الأصول بما يتمشى مع القواعد النحوية البصرية من جهة والقواعد الجمالية الأسلوبية من جهة ثانية، ويتخذ دليله على ذلك خلو القصائد الجاهلية من ظواهر اللهجات القبلية، وقدمنا أن هذه الظواهر كانت فعلا تكاد تكون منعدمة فى الجاهلية نفسها لأن الشعراء فى القبائل المختلفة اصطلحوا على أن ينظموا شعرهم بلهجة قريش، واتخذوها لغة لشعرهم، ومن أجل ذلك لم يسقط من لهجاتهم فى أشعارهم إلا أشياء قليلة جدا، سجلها هؤلاء النحاة البصريون، وإلا ففيم هذه الشواذ النحوية التى تمتلئ بها كتبهم. ولم يكن رواة البصرة ونحاتها وحدهم الذين يروون هذا الشعر، بل كان يرويه معهم رواة الكوفة ونحاتها، وكانوا مولعين بإثبات الشواذ واعتبارها أصولا يقاس عليها. أما أن هؤلاء الرواة جميعا أدخلوا فى الشعر الجاهلى إصلاحات ذات صبغة جمالية، تقوم على متانة اللفظ وجزالته، فهى دعوى تستلزم ضربا من الدور، إذ كانوا يرجعون فى هذه الإصلاحات إلى المقاييس الجمالية المبثوثة فى هذا الشعر الجاهلى والتى تقوم على الرصانة والجزالة، ثم يصلحونه على أساسها، وبذلك يجعلهم بلاشير يدورون، وهو دور باطل، تنقضه طبيعة الأشياء. والحق أن ثقاتهم نقلوا إلينا هذا الشعر بكل صفاته الجمالية وما داخله من عيوب تركيبية أو شواذ نحوية أو لغوية. على أننا نسلم بما يقوله بلاشير


(١) بلاشير ص ١٨٩.
(٢) بلاشير ص ١٩٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>