للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وليست هناك وقائع حربية كبيرة إلا ودوّن الشعراء فيها البطولات العربية، وكان من أهم هذه الوقائع ثورة الزنج، وقد تغنى الشعراء فيها ببطولة الموفق غناء مدوّيا، ونرى الطبرى يسجل فى تاريخه طائفة كبيرة من أشعار هذا الغناء.

وبالمثل نراه يدوّن أغانى وأناشيد أخرى فى حروب القرامطة، وكأنما استقر فى نفوس المؤرخين أن الشعر الذى تغنّى بهذه الحروب ووصفها لا يقل أهمية عن وثائق التاريخ، فهو ليس مديحا للبطولات وتمجيدا فحسب، بل هو أيضا تاريخ، وهو تاريخ نابض بالحياة. ومن المحقق أنه حتى الآن لم يستغلّ هذا التاريخ الشعرى فى كتابة تاريخ العصر، إذ كثيرا ما يحوى من التفاصيل ومن دقائق الأحداث مالا نجده مصورا فى كتب التاريخ، ولذلك كان ينبغى على المؤرخين ألا يكتفوا بما يقرءون فى كتب التاريخ عن الأحداث والوقائع الحربية، بل يضموا إلى ذلك وصف تلك الوقائع والأحداث المبثوث فى دواوين الشعراء، حتى يطلعوا على كل جوانبها اطلاعا مضبوطا دقيقا.

وظل شعراء المديح فى كثير من مدائحهم يقلدون الأقدمين فى الوقوف على الأطلال والبكاء على الدمن والآثار العافية، وفى رأينا أن استبقاء الشاعر العربى على مدى العصور الماضية لهذا المطلع فى كثير من قصائده لم يكن لبيان صلته بأسلافه ولا استبقاء لصورة من صور حياتهم الرعوية فى العصر الجاهلى وما كان يتصل بها من الرحلة الدائرة حول مساقط الغيث والكلأ، وإنما كان لإحساس الشاعر إحساسا عميقا بتعبير هذا المطلع عن كل ما ينمحى من حياة الإنسان إلى غير مآب، سواء فى ذلك حبه وغير حبه، فدائما لحظات ماضيه تذهب منه إلى غير مآب فى الشباب وغير الشباب ولا يستطيع لها رجعة ولا أوبة. وكأنما تصوّر الأطلال نوازع الفناء التى تطبق مخالبها على كل ما يمضى من حياة الإنسان، وعادة تطبق هذه المخالب عليه آخر الأمر، فيصبح أثرا بعد عين، وهو لذلك يقف بالأطلال باكيا بدموع غزار، متمنيا لو عادت إليها نضرة الحياة القديمة، ولذلك قد يستسقى لها السحاب حتى تعود إليها النباتات والظلال وحتى تدبّ فيها الحياة، فمن ذلك قول ابن المعتز يصف دارا وأطلالا (١):


(١) الديوان (طبعة دار صادر ببيروت) ص ٣٥٤ وزهر الآداب ١/ ١٦٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>