للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا مثل منزلة الدّويرة منزل ... يا دار جادك وابل وسقاك

بؤسا لدهر غيّرتك صروفه ... لم يمح من قلبى الهوى ومحاك

لم يحل للعينين بعدك منظر ... ذمّ المنازل كلّهن سواك

أىّ المعاهد منك أندب طيبه ... ممساك بالآصال أم مغداك

أم برد ظلّك ذى الغصون وذى الجنا ... أم أرضك الميثاء أم ريّاك (١)

وكأنما سطعت مجامر عنبر ... أوفتّ فأر المسك فوق ثراك

وكأنما حصباء أرضك جوهر ... وكأن ماء الورد دمع نداك

وكأنما أيدى الربيع ضحيّة ... نشرت ثياب الوشى فوق رباك

وابن المعتز يلمّ بتلك الدار، ويراها وقد فقدت بهجتها القديمة وغيّرتها صروف الزمان حتى محت أطلالها الدوارس، ولا يزال هواه بها ماثلا فى قلبه، وهو يدعو لها الغيث أن يجودها حتى تستعيد حلّتها الداثرة. وتتراءى له من خلال ذكرياته وعهود حبه الماضية، فيرى كل الديار دونها ولا تقاس إلى جمالها، ويبكيها ويندبها، ويندب كل معهد فيها وما كان ينتشر فيه من طيب على الصباح الباكر وعلى الآصال فى المساء وعلى الغصون ذات الظلال والثمار، وتفوح الأرض برائحتها الساطعة، وكأنما تفوح مجامر عنبر، أو كأنما تفوح فأرة مسك، وحتى الحصى كأنه جواهر سقطت من أهل تلك الدار، وكأن قطرات الندى ماء ورد عاطر، والربيع ينشر بها وشيا عجيب الألوان. وهو وصف يحمل حنينا ووجدا لا نهاية لهما للدار وما كان بها من لقاء بين الأحبة، لقاء جعل كل ما حولهم يبدو فى هذه الصورة القاتنة المحفورة فى ذهن ابن المعتز حفرا لا يمكن أن يطمس أو تأتى عليه الأيام.

وكان الشاعر القديم ينزع نفسه من الأطلال وما يتصل بها من ذكريات الهوى والشباب الداثرة، مفضيا إلى وصف رحلة له فى الصحراء، يتحدث فيها عر طول سراه وعن الفلوات وحيوانها الأليف والوحشى ومدى ضنا بعيره فى رحلته


(١) الجنا: الثمر. الميثاء: السهلة. الريا: الرائحة.

<<  <  ج: ص:  >  >>