وقد مضى يتحدث عن تأثير هؤلاء القيان بغنائهن وبماكن يحملن من آلات الطرب على صدورهن، وكأنها أطفال لهن، فهن يعانقنها وكأنما يرضعنها، ولكن لا بلبن وإنما بألحان شجية تشفى المحزون من دائه، ولكل منهن جمالها وسحرها وفتنتها وصوتها الذى يدلع الحزن والفرح جميعا، صوت تمده وتعلو به كما أرادت أو كما يقول فى قصيدته:
ذات صوت تهزّه كيف شاءت ... مثلما هزّت الصّبا غصن بان
وإنما أردنا بذلك كله أن نصور كيف أن شاعر المديح فى هذا العصر حاول أن يضيف إلى عناصره الموروثة عناصر مستمدة من بيئته الحضارية، ممثلا فيها كثيرا من المعانى والصور الدقيقة، وكانوا دائما يلائمون بين مدائحهم وممدوحيهم، فإذا مدحوا وزيرا مثلا عرضوا لسياسته وتفننه فى الكتابة، وإذا منحوا قائدا عرضوا لوقائعه وأمجاده الحربية، وإذا مدحوا عالما أشادوا بعلمه، وكذلك إذا مدحوا مغنيا أشادوا بغنائه. واضطرم حينئذ الهجاء كما اضطرم المديح، ولم يكد يترك الشعراء خليفة ولا وزيرا ولا قاضيا ولا عالما ولا مغنيا إلا كالوا له الهجاء كيلا، وأدّاهم تنافسهم إلى أن يتبادلوا الهجاء ويريشوا كثيرا من سهامه. واقرأ فى أى ديوان من دواوين العصر فستجد دائما هجاء كثيرا على نحو ما يلقانا فى ديوان البحترى مثلا، وقد اشتهر بهجائه بعض ممدوحيه حين يقلب لهم الدهر ظهر المجن، مثل أحمد ابن الخصيب ممدوحه، فإنه حين نكبه المستعين أنشده قصيدة يحثه فيها على مصادرة أمواله وسفك دمه، وظل يسلقه بلسانه طويلا بمثل قوله (١):
لابن الخصيب الويل كيف انبرى ... بإفكه المردى وإبطاله
كاد أمين الله فى نفسه ... وفى مواليه وفى ماله
والرأى كلّ الرأى فى قتله ... بالسيف واستصفاء أمواله
وله قصائد كثيرة يمجد فيها المستعين وعهده، حتى إذا خلع وولّى الترك بعده المعتز أصلاه نارا حامية من هجائه فى ثنايا مديحه للخليفة الجديد. ولم يكن البحترى حاذقا فى هذا الفن، غير أنه كان هناك كثيرون يتقنونه، مثل على