للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثانية أن هذا الغزل المادى الماجن كانت تحفّه دائما وتتخلله معانى الغزل العربى العفيف الذى شاع فى العصر الأموى، وكانت هذه المعانى تخفف من ماديته كما كانت تشعل فيه جذوة الحب الظامئ وآلامه الثقال، فلم يسقط فى كثير من جوانبه ومقطوعاته، إذ ظلت فيه الحيرة والحنان والتضرع والاستعطاف وظل الشوق الجامع الذى يملك على النفس عواطفها وحسها وشعورها وأهواءها.

وأيضا لا بد أن نلاحظ بجانب ذلك أن الغزل العذرى العفيف نفسه ظل حيّا لا من خلال معانيه التى تسربت فى الغزل المادى الصريح كما ذكرنا آنفا، وإنما من خلال بعض الشعراء الذين ارتفعوا عن أدران الحسّ وأعراضه، وعاشوا فى حبهم معيشة طاهرة نقية أعظم ما يكون الطهر والنقاء على نحو ما هو معروف عن محمد ابن داود الأصبهانى صاحب كتاب «الزهرة» فى الحب وأشعاره. وملاحظة أخيرة هى أن الضربين من الغزل المادى الإباحى والعذرى العفيف استطاعت تكلّف؟ ؟ ؟ الشعراء الخصبة حينئذ أن تستثير فيهما كثيرا من خطرات الحب ودقائقه البديعة، وابن الرومى لا يبارى فى نفوذه إلى هذه الدقائق، كقوله فى العناق وطموحه إلى امتزاج الروحين (١).

أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها، وهل بعد العناق تدان

وألثم فاها كى تزول حرارتى ... فيشتد ما ألقى من الهيمان (٢)

كأن فؤادى ليس يشفى غليله ... سوى أن يرى الروحين يمتزجان

فالعناق لا يروى ظمأه، وفى قلبه جذوة لا تطفئها القبلات، بل تزيدها تلظيا واشتعالا، ويحسّ أن عذابه بحب صاحبته لن يخلصه منها إلا أن تمتزج روحه بروحها، حتى ينعم بالوصل الحقيقى. وكثيرا ما يلم بالعناق وكثيرا ما يودع فيه صورا طريقة، كقوله (٣):

طالما التفّت إلى الصّب‍ ... ح لنا ساق بساق

فى قناع من لثام ... وإزار من عناق


(١) الديوان ص ٢٧.
(٢) الهيمان: العشق الشديد
(٣) ديوان المعانى ١/ ٢٤٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>