للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومرّ بنا فى فصل الحياة الاجتماعية أن موجة المجون ظلت على تفاقمها وحدتها فى هذا العصر، وظل معها شرب الخمر المعتقة، وكانت حاناتها تكتظ بها الكرخ فى بغداد ودور النخاسة والبساتين كما كانت تكتظ بدنانها وكئوسها الديارات. وكان سقاتها أخلاطا من النصارى والمجوس واليهود، وأقبل يعبّها المجّان؟ ؟ ؟ والفسّاق وكان منهم المتمرد على الدين الحنيف، ومنهم المجوسى، ومنهم من لا يؤمن بأى دين، فأكبوا عليها جميعا، دون رادع أو وازع، ويفيض كتاب الأغانى بأخبارهم، وكذلك كتاب الديارات للشابشتى، حيث يتوقف مع كل دير ليترجم لماجن كبير مثل الحسين بن الضحاك وأبى الشبل البرجمى وعبد الله بن العباس الربيعى، وغيرهم ممن كانوا يعكفون على الشراب فى الأديرة وغير الأديرة، وممن عاشوا سكارى لا يفيقون إلا لكى يعودوا إلى الشراب والمجون، وهم فى أثناء ذلك يصفون الخمر والنشوة بها وكئوسها ودنانها وسقاتها مضيفين إلى ذلك غزلا مسعورا بالجوارى والغلمان. ويخيل إلى الإنسان كأنما تردّى فى حمأة هذه الرذيلة أكثر شعراء العصر، ولذلك تزخر دواوينهم وأشعارهم بنعت الخمر والنشوة بها، وجعلوا يحاولون فيها ما حاولوه فى أغراض الشعر الأخرى من النفوذ إلى معان وأخيلة تبهر السامعين، من مثل قول ابن المعتز (١):

شربنا بالكبير وبالصغير ... ولم نحفل بأحداث الدهور

وقد ركضت بنا خيل الملاهى ... وقد طرنا بأجنحة السرور

وهو يصور نشوته بتلك الخمر التى شربوها بالقداح الكبيرة والصغيرة، فملأتهم مسرة وفرحة، حتى لكأنما يحملهم الاغتباط على خيوله، بل على جناحيه، فهم يطيرون طيرانا، ولم يبلغ شاعر مبلغ ابن الرومى فى بيان ما تفسح الخمر من آمال السكران حتى ليتمنى المستحيلات، يقول (٢):

ومدامة كحشاشة النّفس ... لطفت عن الإدراك والحسّ

لنسيمها فى قلب شاربها ... روح الرجاء وراحة النفس

وتمدّ فى أمل ابن نشوتها ... حتى يؤمّل مرجع الأمس

وكأنها وكأن شاربها ... قمر يقبّل عارض الشمس


(١) الديوان ص ٢٣٨.
(٢) الديوان ص ١٠٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>