للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد صور ابن الرومى فى البيتين الأولين رقة المدامة وخفتها حتى لتكاد تدق عن الحس، كما صور أثرها فى قلب شاربها وما تمنحه من أمل بعد يأس وراحة بعد تعب، بل إنها لتمد فى أمله، حتى ليظن أن ما يستحيل رجوعه سيعود ثانية وأنها تخلو من كل كدرة.

وينبغى أن نؤمن بأن حركة المجون فى العصر لم تكن تعم الناس جميعا، إنما كانت تعم فى بعض قصور ذوى السلطان ومن كانوا يفيضون عليه من أموالهم من المغنين والشعراء، أما عامة الشعب فكانت تربض فى مسغبة شديدة وقلما عرفت شيئا من الترف أو من الفراغ والثراء.

وكان الموضوع الذى يتصل بالعامة حقّا هو الزهد وما نشأ عنه من التصوف، وبدون شك كانت الحانات والأديرة لا تقاس من حيث الكثرة ولا من حيث عدد من يؤمونها إلى المساجد، وكانت تكتظ بالفقهاء والمحدثين والعبّاد والنسّاك الذين رفضوا متاع الحياة الدنيا، وعكفوا على عبادة الله. وكان بينهم كثيرون من الوعاظ الذين يعظون الناس صباح مساء، وقد رفعوا نصب أعينهم ثواب الآخرة من الجنان والفراديس وعقابها من الجحيم والعذاب المقيم، وهم فى أثناء ذلك يدعون إلى الزهد وازدراء المتاع الفانى والإقبال على ما عند الله من المتاع الباقى، مكررين الحديث عن الموت وأن الحياة إنما هى رحلة قصيرة والناس فيها كركب وقوف ينتظر كل منهم دوره، وسرعان ما يختطفهم الموت، فأولى لهم أن يتدبروا حياتهم وأن يتزودوا زادا كبيرا لآخرتهم، زادا من التقوى والصلاح والقناعة. ويكثر الشعر الزاهد فى العصر حتى ليتّخذ أحيانا مقدمة للمديح من مثل قول على بن الجهم (١):

وعاقبة الصبر الجميل جميلة ... وأفضل أخلاق الرجال التفضّل

وما المال إلا حسرة إن تركته ... رغنم إذا قدّمته متعجّل

وللخير أهل يسعدون بفعله ... وللناس أحوال بهم تتنقّل

ولله فينا علم غيب وإنما ... يوفّق منا من يشاء ويخذل

وبلغ من شيوع شعر الزهد حينئذ أن اشترك فيه كثير من الشعراء الذين تطفح


(١) الديوان ص ١٦٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>