للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فى هذا الاتجاه، إذ يحاول فى كثير من قصائده إحصاء كل نور وكل زهر من أبيض وأحمر وأصفر، وكانت له مخيلة تشبه آلة تصويرية دقيقة، فهى ماتنى تصور وتلتقط الدقائق وكأنها لا تريد أن تترك شيئا، ومن خير ما يصور ذلك عنده أرجوزته البستانية التى ذم فيها الصبوح أو خمر الصباح، وهو يفتتحها على هذا النمط (١):

أما ترى البستان كيف نوّرا ... ونشر المنثور زهرا أصفرا

وضحك الورد إلى الشقائق ... واعتنق القطر اعتناق وامق

فى روضة كحلل العروس ... وخرّم كهامة الطاووس (٢)

ومضى يذكر الياسمين والخشخاش والسوسن والبهار والجلنار إلى غير ذلك من أزهار، ولكل زهر صورته، الحية النابضة. وتعلق كثيرون بوصف الورد والتعبير عن روعته وفتنته التى تأخذ بالألباب؛ ولابن الجهم فيه قطعة بديعة يتحدث فيها عن رياحين الربيع وطيوره الغردة ونشوة النفوس به نشوة لا تقل عن نشوة الراح يقول (٣):

لم يضحك الورد إلا حين أعجبه ... حسن الرياض وصوت الطائر الغرد

بدا فأبدت لنا الدنيا محاسنها ... وراحت الرّاح فى أثوابها الجدد

ما عاينت قضب الريحان طلعته ... إلا تبيّن فيها ذلّة الحسد

وقابته يد المشتاق تسنده ... إلى التّرائب والأحشاء والكبد

كأن فيه شفاء من صبابته ... أو مانعا جفن عينيه من السّهد

بين النديمين والخلّين مضجعه ... وسيره من يد موصولة بيد

قامت بحجّته ريح معطّرة ... تشفى القلوب من الأرعاب والكمد

وهو تصوير بارع لصبابة الناس بالورد، حتى إنهم ليضمونه إلى الصدور والأحشاء والكبد يريدون أن يطفئوا به نيران أشواقهم، ويشفوا به لوعات صباباتهم


(١) الديوان ص ٤٧٣.
(٢) الخرم: زهر بنفسجى اللون.
(٣) الديوان ص ٨٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>