للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وسهادهم الطويل، وإنه ليتراءى دائما يتهاداه الأحبة وقد اتخذ مضجعه بينهم، وهم يتبادلون كئوس الحب الصافية، وأريجه ينتشر شذاه فى كل ما حولهم بلسما يشفى القلوب الكليمة. ولعل شاعرا لم يتعلق بالطبيعة فى العصر تعلق ابن الرومى والصنوبرى، ونحس عندهما بقوة الإحساس بفتنة الرياض النضرة والفاكهة اليانعة والمياه الجارية، وغلب ذلك على الشعراء حينئذ، حتى لنجد ابن قتيبة يدعو إلى نبذ وصف البساتين والورود والرياحين والعودة إلى وصف الفيافى وأزهارها ونباتاتها (١)، ولم يقف هذا التحول الجديد عند مجرد التخفف من موضوع الطبيعة الصحراوية الجافة والعناية بطبيعة الحياة الحضرية وورودها ورياحينها، بل لقد تحولت هذه العناية إلى فتنة شديدة بجمال الرياض والبساتين، فتنة خلبت ألباب الشعراء وملأت عليهم حواسهم وملكت عليهم قلوبهم، وخير من يصور ذلك ابن الرومى، إذ نحس فى وضوح شغفه بالطبيعة شغفا يفوق كل وصف، شغف العاشق بمعشوقته، حتى ليحس كأنما الدنيا فى الربيع تتبرج له ولكل ناظر، إذ يقول (٢):

تبرّجت بعد حياء وخفر ... تبرّج الأنثى تصدّت للذكر

بل لكأنما تحولت جوانبها تحت عينيه إلى معابد، فهو ما ينى يقدم لها قرابينه وأدعيته وابتهالاته مصورا جمالها المنبث فى كل أجزائها وما يجرى فيها من حياة، وبدون ريب يتقدم ابن الرومى شعراء العربية عامة فى الإحساس بخفقات الطبيعة وهمساتها وكل حركة فيها، حتى ليشبه فى هذا الجانب من بعض الوجوه شعراء الرومانسية الغربية الذين يفنون فى الطبيعة، ويحسون امتلاءها بالحياة، فكل ما فيها حى متحرك ناطق، وكل ما فيها يخفق بالأحاسيس والمشاعر، ومن خير ما يوضح ذلك عنده تصويره لمشهد الغروب، يقول (٣):

لقد رنّقت شمس الأصيل ونفّضت ... على الأفق الغربىّ ورسا مذعذعا (٤)

وودّعت الدّنيا لتقضى نحبها ... وشوّل باقى عمرها فتشعشعا (٥)


(١) الشعر والشعراء (طبع دار المعارف ١٩٦٦) ص ٧٦.
(٢) الديوان ص ٨٩.
(٣) الديوان ص ٣٠٠.
(٤) رنفت: ضعفت. الورس: نبات أصفر. مذعذعا: متفرقا.
(٥) شول: ذهب. تشعشع: بقى أقله.

<<  <  ج: ص:  >  >>