للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يرديه، ويصوره قاتلا للشاه فى كل مكان من الرقعة بفنه وطبه، دون أن ينظر إليه وإلى مكانه من جنوده، بل أيضا يقتله وهو مدبر عن الدست بظهره، وكأنما له عين يرى بها من خلفه حدة ذكاء ونفاذ بصيرة.

وذكرنا فى كتاب العصر العباسى الأول كيف أن بعض الشعراء، وفى مقدمتهم أبو تمام، كانوا يضعون أحيانا فى مقدمات قصائدهم شكوى مرة من الزمن وهمومه وأن منهم من أفرد للشكوى بعض قصائد ومقطوعات، ولكن هذه الشكوى تظل فى العصر السالف فردية، أما فى هذا العصر العباسى الثانى فإنها تصبح موجة عامة قل من لم تعمه، لفساد الأحوال السياسية التى وصفناها فى غير هذا الموضع، فإذا المناصب يتولاها غير أهلها، وإذا السعايات تفشو ويفشو معها ارتفاع الوضيع وتعظم المحنة ويستسلم الناس إلى غير قليل من اليأس، ويحسون كأن لا أمل فى الإصلاح، فقد عم الظلم واضطربت القيم وكأنما لم يعد للشر والنّكر غاية ينتهيان إليها أوحد يقفان عنده، أو قل كأنما أصبحت الحياة يأسا متصلا، لذلك كان طبيعيا أن نجد الشكوى على كل لسان، شكوى مريرة من الزمن وأهله، على شاكلة قول الكندى الفيلسوف (١):

أناف الذّنابى على الأرؤس ... فغمّض جفونك أو نكّس (٢)

وضائل سوادك واقبض يديك ... وفى قعر بيتك فاستجلس

وعند مليكك فابغ العلوّ ... وبالوحدة اليوم فاستأنس

فإن الغنى فى قلوب الرجال ... وإن التعزّز بالأنفس

وكائن ترى من أخى عسرة ... غنىّ وذى ثروة مفلس

ومن قائم شخصه ميّت ... على أنه بعد لم يرمس (٣)

والكندى متشائم إلى أبعد حد، فقد اختلت موازين الحياة، فارتفع الوضيع وهبط الرفيع، ولم يعد هناك مفر من هذا البلاء ولا خلاص، فاعتزل الدنيا، وعش وحيدا بعيدا عن هذا النكر الذى يصطلى الناس ناره، ولا تؤمل فى أن ينقشع هذا


(١) ابن أبى أصيبعة ص ٢٨٨.
(٢) أناف: أشرف: نكس: طأطئ الرأس ذلا.
(٣) يرمس: يقبر.

<<  <  ج: ص:  >  >>