للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الظلام، فلم يعد لك من أمل سوى الالتجاء إلى مليكك وساحات برّه. ويزدرى الكندى ما فى أيدى أصحاب الجاه والسلطان من مال تعافه النفوس الكريمة، فيقول إن الغنى غنى النفس العزيزة، وكم من فقير هو فى حقيقته غنى بقلبه وأخلاقه الرفيعة، وكم من غنى هو فى حقيقته فقير بأخلاقه الذميمة، بل إنه ميت وإن بدا حيّا، ميت لم يقبر ولم يوضع فى رمسه. وإذا كان الكندى قد بلغ من الشكوى هذا الحد فإن من عاصره من الشعراء ومن جاءوا بعده كانوا يشعرون بنفس المحنة، حتى من نشأ منهم فى بيوت الترف والدعة أمثال ابن المعتز، والشكوى تكثر فى ديوانه من مثل قوله (١):

لم يبق فى العيش غير البؤس والنّكد ... فاهرب إلى الموت من همّ ومن نكد

ملأت يا دهر عينى من مكارهها ... يا دهر حسبك قد أسرفت فاقتصد

وكان طبيعيّا أن يتعمق هذا الإحساس ابن الرومى الذى لم يكن يوسع له الوزراء والكبراء فى مجالسهم وعطاياهم، بل كانوا يلقونه فى كثير من الأحوال بالحرمان والنكران، وكان يعرف فى دقة عبقريته الشعرية، فضاق بالناس وضاق بالحياة، وكانت كما أسلفنا شرّا ونكرا خالصين، فعاش يتجرعها غصصا، ولا مغيث ولا مخلص ولا معين، فكان طبيعيّا أن يتحول متشائما وأن يصبح التشاؤم فلسفة له، فالحياة كلها سواد وكلها ظلام وكلها بلاء لا يطاق، ويصور ذلك تصويرا بديعا فى بكاء الطفل حين ولادته. يقول (٢):

لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد

وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأفسح مما كان فيه وأرغد

إذا أبصر الدنيا استهلّ كأنه ... بما سوف يلقى من أذاها مهدّد

وللنفس أحوال تظلّ كأنها ... تشاهد فيها كل غيب سيشهد

فالدنيا آلام ثقال وأهوال طوال، والطفل يشعر بذلك ساعة ولادته فيبكى بكاء مرا، وكان من الواجب أن يفرح لا أن يبكى؛ لأنه أخذ حظّا من الحرية


(١) الديوان ص ١٨٦.
(٢) الديوان ص ٣٩٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>