للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالقياس إلى المكان الذى كان فيه، وكأنما رأى بعينيه ما يتهدده فى دنياه من الأذى الممض الذى سيملأ نفسه شقاء وعناء.

وصوّر الشعراء-على غرار أسلافهم العباسيين-كثيرا من العواطف الدقيقة، وحللوا كثيرا من المشاعر والشيم الرفيعة والأخلاق الزرية، فمن ذلك تصوير ابن المعتز لحساده وما يأكل قلوبهم من الحسد والضغينة، يقول من قصيدة طويلة (١):

يا من يناجى ضغنه فى نفسه ... ويدبّ تحتى بالأفاعى اللّدّغ

ويبيت تنهض رفرة فى صدره ... حسدا وإن دميت جراحى يولغ (٢)

ما زال يبغى لى بكل قرارة ... حمة الأذى ويشير إن لم يلدغ (٣)

نغلت ضمائر صدره من دائه ... نغل الإهاب معطّنا لم يدبغ (٤)

لا تبتغى منى التى لا أبتغى ... إن كنت مشغولا بشأنى فافرغ

وابن المعتز يصور حسوده فى صورة كريهه، فهو ما يزال يدب من تحته بأفاعيه السامة وما تزال زفراته تصعد فى صدره وما يزال يلتمس جرحا له ليولغ فمه فى دمائه، وما يزال يريد به الطامة الكبرى، كعقرب إن لم تلدغ بحمتها أشارت تريد نزول الكارثة، وقد نغلت وفسدت طوايا صدره وكأنها إهاب معطن يتمزق. وابن الرومى لا يبارى فى تحليل مثل هذه المعانى وما يتصل بها من الطباع والشيم، وله قصيدة طويلة يحلل فيها شيمة الصبر وكيف أنها تحمد حين لا تكون لها ضرورة فكيف بها إذا أوجبتها الضرورة والحاجة الملحة حين تنزل بالإنسان مكاره ليس له منها مهرب. إن الصبر حينئذ يكون نعم الجنّة والدرع الواقى. ويدفع ما يقال من أن من الناس من خلق جزعا هلوعا، فهو لا يستطيع الصبر وكظم النفس عند الشدائد. يقول (٥).

وقد يتظنّى الناس أنّ أساهم ... وصبرهم فيهم طباع مركّب


(١) الديوان ص ٣١٥ والمختار من شعر بشار ص ٦٨.
(٢) ولغه: شربه بطرف اللسان، أو حرك لسانه فيه.
(٣) الحمة: السم أو إبرة العقرب التى يلدغ بها.
(٤) نغل: فسد.
(٥) الديوان ص ٣١٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>