وليسا كما ظنوهما بل كلاهما ... لكل لبيب مستطاع مسبّب
يصرّفه المختار منا فتارة ... يراد فيأتى أو يذاد فيذهب
فالصبر الجميل والجزع الذميم مكتسبان يكتسبهما الإنسان بمحض إرادته واختياره، ولا جبر فيهما ولا طبع، بل هما من عمل الإنسان وبمشيئته، إن شاء جزع عند المصيبة وإن شاء لم يصبه جزع ولا هلع، بل عصم نفسه منهما واحتملهما صابرا جلدا شجاعا أروع ما تكون الشجاعة والجلد والصبر.
وأخذ التصوف ينمو سريعا منذ فاتحة هذا العصر ويستقل عن الزهد استقلالا تامّا، إذ مضى أصحابه يتحدثون عن الحب الإلهى ومقاماته وأحواله، وكانوا يأخذون أنفسهم بمجاهدات عنيفة فى التقشف والنسك مع الانقطاع عن الدنيا والخلوص التام للمحبة الإلهية والنشوة بها إلى درجة الفناء فى الذات العلية، ولهم أشعار كثيرة يصورون بها هذا العشق وما دلع فى قلوبهم من لوعة لا يمكن إطفاؤها، لوعة حب قوى حار، استأثر بكل ما فى قلوبهم من عواطف ومشاعر، وشغلهم عن كل شئ، إذ شغفوا بمحبوبهم شغفا عظيما، بل لقد تحول هذا الشغف عقيدة جمعوا فيها بين محبة الله وبين تقديسه وعبادته، آملين منه فى الوصال وأن يرفع ما بينه وبينهم من حجب، ولكن أنى يكون ذلك؟ إن الدرب دائما يبدو طويلا ودونه أهوال لا حصر لها، أهوال تملأ قلوبهم حسرات ألا يستطيعوا آخر الأمر لقاء المحبوب، ويصور ذلك من بعض الوجوه أبو الحسن النورى إذ يقول (١):
كم حسرة لى ولد غصّت مرارتها ... جعلت قلبى لها وقفا لبلواك
وحقّ ما منك يبلينى ويتلفنى ... لأبكينّك أو أحظى بلقياك
وواضح أن النورى يتجرّع غصصن الحسرات المرة، بل إنه لينتظر البلى والتلف فى سبيل فرحة نفسه باللقاء المنتظر، وإنه ليحس الضنا، بل إنه ليحس السقم والعلة، ولا يجد شفاء لعلته وسقمه، بل إنه ليجد لذة لا تعد لها لذة فى هذا