للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يداه فى الجود ضرّتان ... عليه كلتاهما تغار

لم تات منه اليمين شيئا ... إلا أتت مثله اليسار

واهتز المتوكل طربا وأعطاه الثانية (١). وقد يكون فى منادمته للمتوكل وملازمته له ما يدل على أنه كان ظريفا جميل المحضر. ونراه يتحول منذ اليوم الأول فى خلافته داعية كبيرا من دعاته، بل لقد تحول إلى ما يشبه أداة إعلام، فليس هناك عمل ينهض به المتوكل إلا ويدعو له إن احتاج إلى دعوة، بل إنه ليبالغ فى الدعوة له مبالغة مفرطة. وليس هناك عمل يستحق التنويه إلا ويهتف به فى أشعاره ويشيد إشادة بعيدة، وحتى هو إن غضب على بعض الوزراء أو بعض الكتّاب والعمال رأيناه يسقط عليهم بسياط أشعاره طالبا لهم التنكيل الشديد. وكان أول عمل عامّ نهض به المتوكل وقفه محنة القول بخلق القرآن على نحو ما مر بنا فى غير هذا الموضع، فقد كان الخلفاء منذ المأمون جعلوا هذا القول عقيدة رسمية للدولة، وعنفوا بالفقهاء المنكرين لذلك وفى مقدمتهم أحمد بن حنبل عنفا شديدا حتى إذا ولى المتوكل وقف هذه المحنة التى أوشكت أن تؤدى إلى فتنة خطيرة، وبذلك أفل نجم أصحابها من المعتزلة الذين كانوا يغرون الخلفاء بها وسطع نجم الفقهاء وأهل السنة. ولا يزال ابن الجهم يشيد بهذا الصنيع، إذ رأب المتوكل صدع فتنة كان يخشى أن تتفاقم وتؤدى إلى شر خطير، ونراه فى أثناء ذلك يكيل هجاء ذميما للمعتزلة حتى ليصفهم بالكفر على شاكلة قوله (٢):

قام وأهل الأرض فى رجفة ... يخبط فيها المقبل المدبر

فى فتنة عمياء لا نارها ... تخبو ولا موقدها يفتر

فقال والألسن مقبوضة ... ليبلغ الغائب من يحضر

إنّى توكلت على الله لا ... أشرك بالله ولا أكفر

لا أدّعى القدرة من دونه ... بالله حولى وبه أقدر


(١) الديوان ص ١٣٦ وانظر العقد الفريد (طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر) ١/ ٣٢١.
(٢) الديوان ص ٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>