للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ابنه وأنه نعم الخلف لسلفه. وأهم من هذه المرثية مرثيته لصديقه الروحى أبى تمام، وهى أبيات أربعة صور فيها شاعريته وكيف عدت عليها الأيام، حتى إن الشعر ليبكيه بكاء مرّا، فقد هلك مثقفه ومروّض قوافيه وجفّ غدير روضته، وجفت بدائع فطنته، يقول (١):

غاضت بدائع فطنة الأوهام ... وعدت عليها نكبة الأيّام

وغدا القريض ضئيل شخص باكيا ... يشكو رزيّته إلى الأقلام

وتأوّهت غرر القوافى بعده ... ورمى الزمان صحيحها بسقام

أودى مثقّفها ورائض صعبها ... وغدير روضتها أبو تمام

ومرّ بنا أنه رثى المتوكل رثاء حارّا حين قتله بعض حرسه وحواشيه، وهو يستهل رثاءه له بوصف سحابة أطلّت العراق وملأته أمطارا وخصبا، غير أن عاصفة هوجاء نحتّها عنه، وكأنما يرمز بها إلى المتوكل، ثم أخذ يتفجع عليه تفجعا مريرا، مزريا على جنوده أن لم ينصروه. منددا بمن قتلوه تنديدا شديدا (٢).

والهجاء عنده ليس كثيرا، وهو يخز فيه وخز الإبر، وأحيانا يطعن طعنات دامية، مما جعل ابن المعتز يقول: إنه كان هجّاء يضع لسانه حيث يشاء، ويقول المسعودى: «كان فى لسانه فضل قلّ من سلم معه منه»، ولعله يقصد تعرضه للشيعة والعلويين والمعتزلة. وكان يشتد هجاؤه حين يحس بأنه أوذى أو وقعت عليه إهانة، وممن تعرّض لهم بالهجاء كثيرا أحمد بن أبى دؤاد شيخ المعتزلة، لأنه سأله الشفاعة حين أمر المتوكل بحبسه فقعد عنه ولم يهتم به، حتى إذا نكبه المتوكل شمت به هو وابنه أبى الوليد، وسلّ عليهما لسانه بمثل قوله (٣):

يا أحمد بن أبى دؤاد دعوة ... بعثت إليك جنادلا وحديدا

ما هذه البدع التى سميتها ... بالجهل منك العدل والتوحيدا

أفسدت أمر الدين حين وليته ... ورميته بأبى الوليد وليدا


(١) الديوان ص ١٨١.
(٢) الديوان ص ٥٦.
(٣) الديوان ص ١٢٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>