للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النوم، فإذا أردت لنسيب فاجعل اللفظ رقيقا والمعنى رشيقا، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق. وإذا أخذت فى مدح سيد ذى اياد، فأشهر مناقبه، واظهر مناسبه، وأبن معاطه، وشرّف مقامه وتقاص المعانى واحذر المجهول منها، وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزريّة.

وكن كأنك خيّاط يقطع الثياب على مقادير الأجسام وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك، ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب. واجعل شهوتك إلى قول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين. وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما اسحسنه العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله تعالى».

وكأنما وضع أبو تمام نصب عينى البحترى دستورا قويما لإحسانه صناعة الشعر، بل إن هذا بعض الدستور الذى وضعه؛ إذ لا بد أنه أوصى البحترى وصايا كثيرة حتى يتقن صناعته. وهو فى هذا الجزء من وصاياه ينصحه أن يتخير أوقات إلهامه، ثم يصف له الجودة التى يقوم عليها النسيب والمديح جميعا، مع العناية بدقائق المعانى وجمال الألفاظ والأساليب، ونظن ظنّا أنه حين وجد فى تلميذه حسن الاستجابة، واطمأن إلى أنه شاعر سيكون له شأن، أخذ يعرّفه لا على أهل معرة النعمان فحسب، بل أيضا على ممدوحيه فى حلب والشام والجزيرة والموصل وأرمينية. وكاد محمد بن يوسف الثغرى بطل حروب بابك قديما وحروب الروم حديثا أن يستخلصه لنفسه، وقد ظل يمدحه ويصف بلاءه فى الثغور حتى توفى سنة ٢٣٦ للهجرة، وتغنىّ طويلا بمدح كاتبه محمد بن عيسى القمى، ويتحول إلى ابنه يوسف الذى خلفه على إمارته الأخيرة فى أرمينية وأذربيجان ويكثر من مدائحه. ونظن ظنّا أن من أوائل مدائحه لأبى سعيد محمد بن يوسف الثغرى رائيته (١) التى يعزيه فيها عن المعتصم حين توفى سنة ٢٢٧ للهجرة. ويبدو أن أبا تمام دفعه بعد هذا التاريخ لزيارة سامرّاء بعد أن وثق من براعته الشعرية، إذ نراه ينزل بها، ونرى أبواب الخليفة الواثق ووزيره ابن الزيات وكاتبه الحسن بن وهب مفتوحة أمامه، وكأن صداقة أبى تمام للأخيرين


(١) الديوان ٢/ ٨٨٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>