للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيه يكتظ بعاطفة حقيقية، فقد كان يكنّ له ودّا وحبّا وإخلاصا، وكان ما بنى يتغنّى بمديحه، ومن طريف قوله فيه مصورا هيبته (١):

إذا ما مشى بين الصفوف تقاصرت ... رءوس الرّجال عن طوال سميدع (٢)

وإن سار كف اللحظ عن كل منظر ... سواه وغضّ الصوت عن كل مسمع

فلست ترى إلا إفاضة شاخص ... إليه بعين أو مشير بإصبع (٣)

ومرّ بنا أن أول نابه اتصل به وخصه بمديحه محمد بن يوسف الثغرى ممدوح أبى تمام الذى كان فى مقدمة من قعوا ثورة بابك الخرمى، كما كان فى مقدمة جيوش المعتصم فى غزوه لعمورية. وقد ظل ينازل الروم ويمحق جموعهم حتى وفاته سنة ٢٣٦. وقد سجل البحترى حروبه وانتصاراته القديمة والحديثة جميعا، مجسما بأس جيوشه. وكيف كانوا يتهافتون على الوغى كما يتهافت الفراش على النار، إنهم أبناء موت يطرحون أنفسهم تحت رحاه، فلا تطحنهم وإنما تطحن أعداءهم طحنا، وله فى تمجيد شجاعة محمد بن يوسف الثغرى أشعار وقصائد كثيرة، ومن طريف ماله فى تصوير رباطة قلبه وسكون نفسه فى الحرب قوله (٤):

لقد كان ذاك الجأش جأش مسالم ... على أن ذاك الزّىّ زىّ محارب

تسرّع حتى قال من شهد الوغى ... لقاء أعاد أم لقاء حبائب

وصاعقة فى كفّه ينكفى بها ... على أرؤس الأقران خمس سحائب

فجأشه مطمئنّ ونفسه هادئة، حتى ليظن من يراه أنه فى سلم وأمن ودعة مع أن الزى زى محارب باسل. وإنه ليقبل على ميادين الحرب إقبال المحب على الحصى؟ ؟ ؟ معشوقته هانئا مغتبطا، وإن السيف فى يده ليشبه أدق الشبه صاعقة تسقط على الأعداء بشواظها من أصابعه الحمس، وكأنها خمس سحائب مائتى ترسل عليهم الصواعق المدمرة. والبطل الثانى فى ديوان البحترى هو أحمد بن دينار، وقد سجّل بطولته فى معركة بحرية دمّر فيها بأسطوله الأسطول البيزنطى تدميرا ذريعا، ومن عجب أن الطبرى وغيره من مؤرخى العرب لم يدونوا هذه المعركة الخطيرة،


(١) الديوان ٢/ ١٢٣٩.
(٢) السميدع: السيد الكريم الشجاع.
(٣) الإفاضة: الاتجاه بالبصر.
(٤) الديوان ١/ ١٧٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>