للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بها الرشيد والمأمون مدّ يده وعينه، وكانت تكتظ بكتب الفلسفة وعلوم الأوائل فانقض عليها انقضاضا يقرأ ويستوعب ويستسيغ ويتمثل تمثلا نادرا (١). وتكثر فى أشعاره الإشارة إلى حكماء اليونان الأقدمين، كما تكثر أسماء الكواكب والنجوم.

ومما لاريب فيه أنه كان-كما مر بنا فى غير هذا الموضع-يعتنق الاعتزال.

ويذكر معاصروه أنه كان ضيق الصدر سريع التغير والانقلاب، وسنرى أثر ذلك فى أشعاره إذ كثيرا ما كان يضيق ببعض ممدوحيه فينقلب هاجيا لهم، ويذكر معاصروه أيضا أن من كان يلقاه يراه كالمتوجّس المذعور، وكأنما كان فى أعصابه شئ من الاختلال، ولعل ذلك هو الذى أعدّه لأن يصبح أكبر شاعر متطيّر فى عصره. وكان إذا روجع فى كثرة تطيّره احتج بقوله إن النبى صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل ويكره الطيرة، أفتراه كان يتفاءل بالشئ ولا يتطيّر من ضده، ويقول إن عليّا لم يكن يغزو غزاة والقمر فى برج العقرب، وكان يزعم أن الطّيرة موجودة فى الطباع قائمة فيها (٢). ويقصّ معاصروه عن طيرته أخبارا كثيرة، من ذلك أنه أغلق باب داره ثلاثة أيام لما تصادف من أنه كان يصير إلى الباب والمفتاح معه فيضع عينه على ثقب فى خشب الباب فيرى جارا له أحدب كان نازلا بإزائه يقعد على الباب. فإذا نظر إليه رجع عن عزمه على الخروج وخلع ثيابه وقال لا يفتح أحد الباب (٣). وافتقده فى مجلسه بعض الأمراء، وكان يعلم حاله من الطيرة، فأرسل له غلاما يسمى إقبالا ليتفاءل به عند سماع اسمه، غير أنه لم يكد يعزم على المضى معه حتى بدا له اسمه معكوسا هكذا:

لا بقاء، فقال له امض إلى سيدك وأنبأه بما فى نفسه! . وأرسل له بعض الأصدقاء غلاما له يسمى حسنا، وكان حسن الوجه، طالبا إليه أن يزوره، فخرج معه، وإذا أمام داره دكان خياط درفتاه على هيئة اللام ألف، هكذا: لا، وحانت منه التفاتة فرأى تحت الدرفتين نوى تمر، فتطير، وقال إن هذا يشير إلى:


(١) أشار أبو العلاء فى رسالة الغفران: إلى تفلسف ابن الرومى قائلا إنه كان يتعاطى الفلسفة. انظر طبعة كيلانى ٢/ ٧٤.
(٢) زهر الآداب للحصرى ٢/ ١٧٢.
(٣) زهر الآداب ٢/ ١٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>