للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يتمثل جميع الثقافات فى عصره فلسفية وغير فلسفية. وإذا هو يستقصى المعانى استقصاء نادرا حتى لا يكاد يترك فى معنى شعبة دون عرضها والإلمام بها، وإذا هو يوغل فى الأفكار ويستنبط منها مستوراتها الخفية، وإذا هو يسلط عليها أشعة المنطق بكل أقيستها وعللها، فتبدو فى أضواء واضحة وضوحا مطلقا، وليس ذلك فحسب فإنه استطاع أن يغير فى سمات كل موضوع قديم بفضل ما ألقاه عليه من الأضواء والظلال العقلية. وهو بحق يمثل النزعة التجديدية فى العصر، على حين كان البحترى يمثل النزعة التقليدية على نحو ما مرّ بنا فى غير هذا الموضع.

وأول ما نقف عنده المديح، وبعض قصائده فيه يطول طولا مسرفا حتى لتبلغ القصيدة نحو ثلثمائة بيت، وعادة يقدم لمدائحه بما تعارف عليه الشعراء من قبله من مقدمات، ولكنه ينوّع فيها، فقد يختار النسيب مثلا، ولكنه يتحوّل به كما فى قصيدته النونية (١) التى مدح بها أبا الصقر إسماعيل بن بلبل إلى تجسيد فواكه البستان فى المرأة، حتى سمّى بعض معاصريه-كما أسلفنا-القصيدة باسم دار البطيخ وكانوا يطلقونها على دكان الفاكهة. وقد يختار وصف (٢) الطبيعة والربيع ويبدع فى وصفه، إذ كان مفتونا بها فتنة العاشقين الوالهين، مما يميزه بحق عن شعراء العربية. وقد يدمج فى القصيدة وصف مجلس سماع، فيصور آلات للطرب ومن يحملنها من القيان فى صور بديعة على نحو ما يلقانا فى نونيته التى مدح بها عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، والتى يفتتحها بقوله (٣):

وقيان كأنها أمهات ... عاطفات على بنيها حوان

وقد أنشدنا منها قطعة فى الفصل الماضى. ويضيف إلى وصف مثل هذا المجلس ذكر الخمر. وقد يختار بكاء الشباب الذى طالما تغنّى به الشاعر العربى، ولكنه يعرضه عرضا جديدا على نحو ما نرى فى مقدمة قصيدته البائية (٤) التى مدح بها على بن يحيى المنجم، فقد تحدث فيها عن الشيب والخضاب ودعاه حدادا كئيبا


(١) الديوان ص ٢٠.
(٢) الديوان ص ٢٩٩، وقد دون كامل كيلانى المقدمة وحدها دون المديح.
(٣) الديوان ص ٨٤.
(٤) الديوان ص ١٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>