للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالبؤس والحرمان يضاعف حزنه، وكأنما الحياة كلها أمامه كانت أحزانا ومآتم، وتصادف أن مات له ثلاثة أبناء، فبكاهم بكاء حارّا، ومرّ بنا فى الفصل الماضى بكاؤه على ابنه الأوسط الذى مات منزوفا وهو لا يزال فى المهد طفلا صبيّا، وقد نصب بقصيدته له مأتما كبيرا صوّر فيه موته ونزيفه تصويرا محزنا، ثم بكاه بكاء مرّا.

ومن قوله فى رثاء ابنه الثالث (١):

أبنىّ إنك والعزاء معا ... بالأمس لفّ عليكما كفن

ما فى النهار-وقد فقدتك-من ... أنس ولا فى الليل لى سكن

ما أصبحت دنياى لى وطنا ... بل حيث دارك عندى الوطن

وله مرثية فى أمه وأخرى فى أخيه محمد، وبجانب ذلك نجد له عزاء من حين إلى حين، وأسلفنا فى الفصل الماضى عزاءه فى ابنة على بن يحيى المنجم، وله عزاء مشابه للمسيّبى الكاتب صديقه يعزيه عن ابنته بأن أحدا لن يخلد فى الدنيا، وأن تلك إرادة الله ولا راد لمشيئته، يقول (٢):

أصبت وما للعبد عن حكم ربه ... محيص وأمر الله أعلى وأقهر

تعزّيت عمن أثمرتك حياته ... ووشك التعزى عن ثمارك أجدر

فلا تهلكن حزنا على ابنة جنّة ... غدت وهى عند الله تحيا وتحبر

وكان ما ينى ينفذ إلى أخيلة ومعان طريفة حتى فى الموت، ولعله أول من حبّب الموت إلى غيره، وكأنما كان يراه خلاصا من حياته ومن الناس والأصدقاء الذين لا ينصفونه، مما جعله يقول (٣):

قد قلت إذ مدحوا الحياة فأكثروا ... للموت ألف فضيلة لا تعرف

فيه أمان لقائه بلقائه ... وفراق كل معاشر لا ينصف

وتعبيره عن أن الموت أمان للإنسان من خوفه المروّع بلقائه من أدق ما يمكن، وهو لا يبارى فى النفوذ إلى كثير من المعانى والأحاسيس الدقيقة. وقد عرضنا فى


(١) الديوان ص ٣١.
(٢) الديوان ص ١٠٤.
(٣) ديوان المعانى ٣/ ١٧٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>