للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد يكون فى ذلك مبالغة على عادة الشعراء فى الديح، لكن على كل حال فى البيتين وقصيدتهما ما يدل بوضوح على أن ابن المعتز كان يكبّ على القراءة وأن موهبة الشعر بدأت تستيقظ فى نفسه فى هذه السنّ الصغيرة. ويبدو أن أباه كان معجبا به إعجابا شديدا مما جعله يضرب باسمه الدنانير. ويسجل ذلك البحترى فى مدحة (١) طويلة له، يصور فيها جمال طلعته وشمائله الكريمة، ثم يقول:

وأبهجنا ضرب الدنانير باسمه ... وتقليده من أمرنا ما تقلّدا

وفى الشطر الثانى ما يصور إرهاض البحترى للمعتز بأن يولىّ عبد الله العهد، ومضى يصرّح بذلك ويطالب به ويهتف فى وضوح. ونراه فى قصيدة (٢) ثالثة يتشفع لعبد الله بأبيه كى يهب له من إقطاع أقطعه له ضيعة تجاور ضياعه بالشام، وفى ذلك يقول فى قصيدة رابعة (٣):

وملّيت عبد الله إنّ سماحه ... هو القطر فى إسباله وأخو القطر

شفعت إليه بالإمام وإنما ... تشفّعت بالشمس اقتضاء إلى البدر

ولم يلبث الدهر أن قلب ظهر المجن للمعتز وابنه، فإن جند الأتراك طالبوه فى السنة الرابعة من خلافته برواتبهم وكانت خزائن القصر خالية من المال، فاعتذر، ولم يقبلوا عذره، وظلوا يفاوضونه حتى قبلوا أن يدفع إليهم خمسين ألفا، ولكنه لم يجدها، فصمموا على خلعه، وهجموا عليه وضربوه بالدبابيس، ثم جعلوه فى بيت أو صدوا بابه حتى مات بعد أن أشهدوا عليه أنه خلع نفسه. وصادروا أموال أمه قبيحة كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، ونفوها إلى مكة ونفوا معها عبد الله ابنه وابنى عميه قصىّ بن المؤيد وعبد العزيز بن المعتمد. وهما محنتان قاسيتان أثّرتا فى نفس الصبى آثارا بعيدة: محنته التى امتحن بها فى أبيه الذى منحه الحياة والذى كان يغمره ببرّه وحنانه وعطفه، ومحنته بالنفى وعذابه ونكاله وعنائه، وما مرّ به فى أثناء ذلك من أمل ويأس ورجاء وقنوط، مع ما صلى به من حزن عميق على أبيه، مما ظل له أثر بعيد فى نفسه، وهو أثر يتراءى بوضوح فى أشعاره، إذ يطالعنا


(١) الديوان ٢/ ٦٧٠.
(٢) الديوان، ٢/ ١٣٠٩.
(٣) الديوان ٢/ ١٠٠٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>