للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حينئذ ثلاثة عشر عاما، وعلم بغضب أستاذه فكتب إليه أبياتا يترضاه بها، وهى تصور ثقافته تصويرا دقيقا، إذ يخاطبه بقوله (١):

أصبحت يابن سعيد حزت مكرمة ... عنها يقصّر من يحفى وينتعل

سر بلتنى حكمة قد هذّبت شيمى ... وأجّجت غرب ذهنى فهو مشتعل

أكون إن شئت قسّا فى خطابته ... أو حارثا وهو يوم الفخر مرتجل

وإن أشأ فكزيد فى فرائضه ... أو مثل نعمان ما ضاقت بى الحيل

أو الخليل عروضيّا أخا فطن ... أو الكسائىّ نحويّا له علل

عقباك شكر طويل لا نفاد له ... تبقى معالمه ما أطّت الإبل (٢)

وهو يقول إن ابن سعيد خرّجه خطيبا فصيحا. لا يقل عن قسّ فى خطابته التى اشتهر بها بين الجاهليين، كما لا يقل عن الشاعر الجاهلى الحارث بن حلزة فى شعره وبداهته، ولا عن زيد بن ثابت فى عمله بالميراث، ولا عن أبى حنيفة فى علمه بالفقه، ولا عن الخليل بن أحمد فى علمه بالعروض، ولا عن الكسائى فى النحو واستنباط علله. وهذه هى مواد ثقافته فى سن الثالثة عشرة، ولم يذكر بينها فلسفة ولا منطقا، غير أنه ينبغى أن نحذر التعميم فى الحكم على ثقافته مما قاله عن نفسه فى تلك السن المبكرة، ومن الطبيعى-وكان نهما بالقراءة-أن يكون قد أطلع على شئ من الفلسفة وقرأ بعض كتب الفلك والتنجيم، ففى أشعاره إشارات لهما (٣)، وإن كنا نظن ظنّا أنه لم يلمّ بذلك فى مطالع حياته. ولعل من الطريف أن نجده يقول (٤):

ولا تفزعن من كل شئ مفزّع ... فما كل تربيع النجوم بضائر

وكأنه كان يتشكك فى حسابات المنجمين وما يزعمونه من طوالع السعد والنحس.

ومضى يمنح أوقاته للشعر والأدب، وكأنما قرر بينه وبين نفسه الانصراف عن السياسة وشئون السلطان، فقد بلا منهما فى جده المتوكل وأبيه المعتز ما جعله يقرر فى حزم


(١) معجم الأدباء ١/ ١٣٣.
(٢) أطت: أنّت تعبا أو حنينا.
(٣) الفن ومذاهبه فى الشعر العربى (الطبعة السابعة) ص ٢٦٣.
(٤) الديوان ص ٢٤٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>