للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نفسه المعوج الرقى ويقال إنه أستاذه، وقد توفى سنة ٣٠٧ وبكاه بمرثية طويلة يقول فيها (١):

يا سماء الشعر التى لى عليها ... كلّ يوم سماء دمع تفيض

كيف تجنى الأفهام زهر المعانى ... بعد ما جفّ روضهنّ الأريض

ولعل أهم صداقة كانت بينه وبين شاعر الصداقة التى انعقدت بينه وبين كشاجم، ونظن ظنّا أنها بدأت فى الرقة، وكان كشاجم قد اتصل هناك بأبى الهيجاء عبد الله بن حمدان والد سيف الدولة، فرعاه وصار من حاشيته، ثم صار من حاشية ابنه، ورافقه حين ألقى عصاه بحلب، حتى نهاية حياته، وكان أصغر سنّا من الصنوبرى، وكأنه اتخذ منه معلمه ورائده فى الشعر، فنسج على منواله، فى وصف الرياض وفى الخمريات والغزل، وبينهما مداعبات ومعابثات واستعطافات كثيرة، وكأن الأستاذ دائما كان حريصا على رضا تلميذه. وتمنى التلميذ يوما لو أصهر إلى أستاذه فى ابنة (٢) له، ولعل عالما لغويّا لم يحظ بصداقة الصنوبرى كما حظى على بن سليمان الأخفش الصغير، وكان قد رحل عن بغداد إلى مصر سنة ٢٨٧ ثم تركها سنة ٣٠٠ موليا وجهه نحو حلب، فظل فيها حتى سنة ٣٠٥.

وفى هذه السنوات الخمس انعقدت له حلقة كبيرة بالمسجد الجامع أمّها الشباب للتثقف، وكان بينهم الصنوبرى، فملك الأخفش عليه لبّه، وإذا هو ينظم فيه قصيدة طويلة يصوّر فيها نهله هو ورفاقه من ينبوعه العظيم، بمثل قوله (٣):

كرعنا منه فى أبح‍ ... ر علم غير منزوفه

وطالعنا رياض العل‍ ... م بالآداب محفوفه

وتضطره بعض ظروفه إلى أن يبرح محاضراته إلى أنطاكية مسقط رأسه، فيكتب إلى الأخفش متشوقا كما يقول، واصفا فراقه لهذا الفردوس العلمى، متمنيا لو فاءت عليه ظلاله. وتمتد به الأيام بعد ذلك نحو ثلاثين عاما يقضى معظمها فى اللهو، ويفيق مرة من كئوسه فى نحو الستين من حياته فيتمنى لو زهد فى الدنيا ومتاعها الزائل


(١) الديوان ص ٢٦٢.
(٢) ديوان كشاجم (طبعة بيروت) ص ٧٩.
(٣) الديوان ص ٣٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>