ولم نتحدث حتى الآن عن الموضوع الأساسى فى شعره. وهو وصف الطبيعة التى عاش لها وعاش بها وعاش فيها معيشة جعلته أستاذ هذا الموضوع فى العربية. وقد مضى معاصروه من حوله ومن خلفهم فى العصور التالية لا فى المشرق وحده. بل أيضا فى المغرب والأندلس يسيرون على هديه فيه. حتى ضرب المثل بروضياته.
وحقّا كان ابن الرومى مشغوفا بالطبيعة ووصف الرياض فى الربيع، ولكنه لم يعش لهذا الموضوع معيشة الصنوبرى ولا اتخذ له بستانا يزرع فيه الورود والرياحين والأزهار ويتعهدها تعهد المحب الوامق كما صنع الصنوبرى. فهو بحق شاعر من شعراء الطبيعة، عاش يتغذى خياله وروحه منها، واصفا لحدائقها وبساتينها ورياضها، حتى ليصبح ذلك كل شغله وكل وكده من حياته، وقديما عاش تلك المعيشة أبو نواس. ولكن فى الصهباء وكئوسها ودنانها، مما جعله يعلى وصفها على وصف الأطلال والديار العافية، وبالمثل نجد الصنوبرى يعلى وصف الطبيعة على وصف الديار والأطلال، فى مثل قوله (١):
وصف الرياض كفانى أن أقيم على ... وصف الطلول فهل فى ذاك من باس
يا واصف الروض مشغولا بذلك عن ... منازل أوحشت من بعد إيناس
قل للذى لام فيه هل ترى كلفا ... بأملح الروض إلا أملح الناس
فهو يعلى وصف طبيعة بلاده على وصف الأطلال، وكأنه أول تعبير قوى عن شغف شعراء الشام بطبيعة ديارهم الخلاّبة. ورأيناه فى غزله لا يهيم بالمرأة، وكأنما استأثرت الطبيعة بكل ما فيه من عاطفة، وشغلته بجمالها الهاجع فى الكون عن كل شئ، حتى لكأنما يعيش لها كل لحظة من حياته، وفى كل لحظة يصبو لها قلبه ويشتد وجده وتتتابع أنفاسه. ويصور ذلك فى قصيدة الأبيات السالفة قائلا عن رفاق له فى أحد البساتين:
ما كدت أكتمهم وجدى بنرجسه ... إلا استدلّوا على وجدى بأنفاسى
فهو يجد بالرياض وجدا لا يكاد يشبهه وجد، وكان يشتد به هذا الوجد فى الربيع، حين تأخذ الأرض زخرفها ويعبق الجو بروائح الأنوار والأزهار، وتتغنّى