للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبجانب هذا الغناء العام كان عندهم غناء دينى يرتلونه فى أعيادهم الدينية، على نحو ما مر بنا من تلبياتهم، فكانوا يرددون مثل «أشرق ثبير كيما نغير». وكانوا فى أثناء تقديم ذبائحهم وصبّ دمائها على الأنصاب المقدسة عندهم يتغنون غناء لعله هو أصل غناء النّصب الذى شاع بينهم فى الجاهلية. وربما كان فى اسم الداجنة والمدجنة، وهى القينة تغنى فى الدّجن وحين ظهور الغيم فى صفحة السماء (١) ما يدل على أنهم كانوا إذا عزّهم المطر وغلبهم الجدب توجهوا بالغناء إلى آلهة الغيث والخصب.

ومعنى كل ما قدمنا أن الشعر فى الجاهلية كان يصحب بالغناء والموسيقى، فهو شعر غنائى تام، ويظهر أن الغناء لم يكن ساذجا حينذاك، فقد عرفوا منه ضروبا مختلفة، يقول إسحق الموصلى: «غناء العرب قديما على ثلاثة أوجه: النّصب والسّناد والهزج، فأما النصب فغناء الركبان والقينات وهو الذى يستعمل فى المراثى، وكله يخرج من أصل الطويل فى العروض، وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات، وأما الهزج فالخفيف الذى يرقص عليه ويمشى بالدفّ والمزمار فيطرب ويستخف الحليم. هذا كان غناء العرب قديما، حتى جاء الله بالإسلام وفتحت العراق وجلب الغناء الرقيق من فارس والروم وتغنوا الغناء المجزّأ المؤلف بالفارسية والرومية وغنّوا جميعا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير» (٢).

ولعل فى اقتران النصب بالمراثى ما يدل على ما قلناه من أنه كان غناء دينيّا، فهم يتغنون به فى الموت، أما السناد فلعله الغناء الذى كان يقترن ببعض الآلات الموسيقية، وأما الهزج فغناء خفيف كان يقترن بالرقص والدف والمزامير، وهو غناء حفلاتهم، ولعلهم كانوا يؤثرون فيه الوزن الذى يساعد على الحركة المعروف باسمه بين أوزان الشعر وهو وزن الهزج، كما كانوا يستخدمون فيه الرّمل والرجز ليطابق الشعر ما يريدون من رقص وسرعة فى الحركة.

وعلى هذا النحو نظم شعراء الجاهلية شعرهم فى جو غنائى مشبه لنفس الجو الذى نظم فيه اليونان شعرهم الغنائى فقد كان الشاعر يغنى شعره، وقد يوقّع هذا الغناء على


(١) انظر مادة دجن فى لسان العرب وغيره من معاجم اللغة. وراجع المفضليات ص ١٣٠.
(٢) العمدة لابن رشيق (طبعة أمين هندية) ٢/ ٢٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>