يوم صيف شديد الحرارة فأكرمه وبالغ فى إكرامه، فأطعمه غذاء طيبا، وسقاه باردا، وأخذ يباسطه فى الحديث، مؤملا أن يمتدحه ببعض شعره، وإذا هو ينشده:
ويوم كحرّ الشّوق فى صدر عاشق ... على أنه منه أحرّ وأرمد
ظللت به عند المبرّد قائلا ... فما زلت فى ألفاظه أتبرّد (١)
فقال له المبرّد: قد كان يسعك إذا لم تحمد أن لا تذم، ومالك عندى جزاء إلا أن تغرب عن عينى. فتركه وهو يضحك من أثر دعابته فى نفس المبرد شيخ العربية لعصره. وأنشد له ابن داود طائفة كبيرة من غزلياته، من مثل قوله:
حبيبى حبيب يكتم الناس أنه ... لنا-حين ترمينا العيون-حبيب
يباعدنى فى الملتقى وفؤاده ... -وإن هو أبدى لى البعاد-قريب
ويعرض عنى والهوى منه مقبل ... إذا خاف عينا أو أشار رقيب
فتخرس منا ألسن حين نلتقى ... وتنطق منا أعين وقلوب
فهما يتناكران أمام الناس، وكل منهما شديد الكلف والولع، يتجرع غصص الهوى وآلامه، ولا يستطيع البوح بما فى ضميره، وهما لذلك يصطنعان التحفظ والاحتشام، وقلوبهما تحترق وجدا، وقد خرست منهما الألسنة ونطقت العيون بمكنون الضمير. وهو مع ذلك يكثر من الاختلاف إلى دارها ومجلس مولاها وليس من رسل بينه وبينها سوى لغة العيون، يقول:
إذا ما التقينا والوشاة بمجلس ... فليس لنا رسل سوى الطّرف بالطّرف
فإن غفل الواشون فزت بنظرة ... وإن نظروا نحوى نظرت إلى السّقف
فهو يسارقها النظر ويختلس منها النظرة فى الحين بعد الحين، حتى لا يفتضح أمرهما للواشين ويجعلهم يقفون على حبه للمرأة وحبها له وأنها لا تفرّط فيه، بل شديدة الحرص عليه. ومع ذلك يجرى بينهما حديث صامت لا أول له ولا آخر