للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد هيّأ هذا البؤس لظهور طائفة بين الناس تعرف بالمكدين، وأول من تحدث عنهم الجاحظ فى مطالع كتابه البخلاء، وهو يورد فيه أسماءهم وحيلهم فى اقتناص الدراهم من الناس ويصوّر البيهقى أعمالهم ونوادرهم (١)، وهم جماعات من المتسولين وكان ينضم إليهم كثير من الأدباء والشعراء، وهم يكوّنون فى العصر طبقة كبيرة، طبقة تتكسب بالتحامق وإضحاك الناس.

وخير من يصوّر طائفة الشعراء المكدين حينئذ أبو العبر (٢) العباسى الذى عاش فى هذا العصر إلى خلافة المنتصر وكان قد ظل خمسين عاما يحيا حياة جادّة إلى أن ولى المتوكل فترك الجدّ وعدل إلى الحمق والشهرة به، ويقال إنه لم يكن فى عصره صناعة إلا وهو يعملها بيده حتى العجين والخبز. وفى بعض أحاديثه ما يدل على أنه كان ببغداد لعصره معلمون يعلمون الأحداث الهزل، وأنه أخذ عن معلم منهم ما عرف به من قلب الكلام رقاعة إذ كان يقول له ولرفقائه: أول ما تصنعون قلب الأشياء فكنت أقول إذا أصبح كيف أمسيت؟ وإذا أمسى كيف أصبحت؟ وإذا قال لى: تعال، تأخرت إلى الخلف. ويقال إنه حاول أن يلفت المتوكل إليه فقلب زيّه إذ جعل فى رجليه قلنسوتين وعلى رأسه خفّا (حذاء) وجعل سراويله قميصا وقميصه سراويل. فلما لمحه المتوكل قال علىّ بهذا المثلة ودخل عليه فقال له: أنت شارب إنى أضع الأدهم (القيد) فى رجليك وأنفيك إلى فارس، فقال توّا: ضع فى رجلى الأشهب وانفنى إلى راجل، فقال المتوكل أترانى فى قتلك مأثوم؟ فقال: بل ماء بصل، فضحك المتوكل. ويقال إنه أخذ منه أكثر مما أخذه أى شاعر بالجدّ، وقد اتخذه فى مجلسه أضحوكة، فكان يرمى به فى البركة التى وصفها البحترى فى بعض مدائحه، وتطرح عليه الشباك ويصاد، ويخرج وهو يقول:

ويأمر بى ذا الملك ... فيطرحنى فى البرك

ويصطادنى بالشّبك ... كأنى بعض السّمك


(١) المحاسن والمساوى ٢/ ٤١٣
(٢) انظر فى أبى العبر وحياته وأخباره وأشعاره طبقات الشعراء لابن المعتز ص ٣٤٢ وأشعار أولاد الخلفاء للصولى ص ٣٢٣ والأغانى (طبع الساسى) ٢٠/ ٨٩ والفهرست ص ٢٢٣ والوافى بالوفيات (طبع إستانبول) ٢/ ٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>