فهو ليس من أصحاب الجاه والسلطان فلا كاتب له ولا حاجب. بل ليس من أصحاب الوجاهة والثراء فلا حمار له يركبه لقضاء مهمّاته كسى كسوة حسنة، ولا قميص له جديد بدلا من قميصه البلل؟ ؟ ؟ ، وما أشد كدره، فأجرة البيت وعجزه عن سدادها ينغصانه، بل يبكيانه، حتى لقد تقرّحت أجفانه لكثرة بكائه، ولا من رحيم يرقّ قلبه له أو يعطف عليه. وحتى إن زاره صاحب لم يجد ما يغذوه به ويطعمه له إلا أن يبيع كتابا من كتبه يشترى له به بعض ما يقيم أوده. فيا للبؤس ويا للظلم الصارخ الذى جعل أبناء الشعب يكدحون ويضنون والحكام يجنون ويقطفون ثمار أعمالهم ولا يبقون لهم منها إلا الذلّ والهوان. وينتابه مرارا الشك فى حرفته الأدبية وتآليفه وما ينظم من أشعار. فيقول:
حسبى ضجرت من الأدب ... ورأيته سبب العطب
وهجرت إعراب الكلا ... م وما حفظت من الخطب
ورهنت ديوان النّقا ... ئض واسترحت من التعب
فهو قد صمم على أن يهجر حرفة الأدب التى لم يجن منها سوى الشقاء والعناء أما كتاب النقائض بين جرير والفرزدق فمع نفاسته رهنه ليسدّ به رمقه، وكأنما أحسّ فيه وفى غيره من كتب الأدب التى صمّم على هجرانها أعباء ثقالا كانت تبهظ كتفيه. فهو يتخلص منها ليريح ويستريح.
وكان طبيعيّا أن يشتد سخطه-مع أبناء الشعب-على فساد الحياة السياسية فى عصر المقتدر وأن يصبّ جاء غضبه على الوزراء الذين كانوا يعتصرون الشعب ليعيشوا هم والخلفاء والقواد فى النعيم. ولا ضير من أن يعيش الشعب فى الجحيم، لذلك كان طبيعيّا أن يتمنى للوزراء أن تحيق بهم الكوارث حتى يتخلص الشعب من ظلمهم وفساد حكمهم. ويروى أن بعض أصدقائه دخل عليه فى عصر المقتدر. فقال له: ما تتمنّى؟ فقال توّا: لم يبق لى منى غير نكبات الوزراء، فقال له: قد نكب ابن الفرات. فقال جحظة على البديهة: