للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على كل حال انتقلت الترجمة فى هذا العصر نقلة واسعة، فقد آخذ المترجمون يتمثلون المعانى التى ينقلونها ويسيغونها ثم يترجمونها إلى لغة عربية فصيحة لا تشوبها شوائب الترجمة الحرفية القديمة. والذى لا ريب فيه أن معرفتهم بخصائص العربية كانت أدق من معرفة أسلافهم، إذ ذلّلها لهم علماء اللغة والبيان، وكانت قد ألفّت كتب كثيرة فى بيان طوابعها ومقوماتها، مما عرضنا له فى غير هذا الموضع، فطبيعى أن يتقنها غير مترجم. وهذا نفسه يلاحظ فيما أخذ ينشأ منذ العصر العباسى الأول من الأساليب الفلسفية والعلمية، فإن هذه الأساليب لانت وأخذ يزايلها الالتواء، بل أخذ يجرى فيها الاستواء والتناسق، وكأن الفلاسفة والعلماء أخذوا أنفسهم بإرادة قوية فى التثقف بالعربية. وليس ذلك فحسب، بل أيضا بالسيطرة على أساليبها سيطرة تقيم تلاؤما وتوازنا دقيقين بين الألفاظ والمعانى التى تؤدّيها، بل إن منهم من شارك فى الشعر والنثر مثل الكندى أول فيلسوف بالمعنى الكامل ظهر عند العرب، فقد أثرت عنه بعض أشعار، كما أثرت عنه بعض رسائل جيدة، سنعرض لها فى موضع آخر، فهو قد أتقن العربية وفقه أسرارها وخصائصها فقها جيدا، ونضرب لذلك مثلا من أسلوبه الفلسفى، وفيه يتحدث عن صانع الكون ومدبره والشواهد العقلية على وجوده، يقول (١):

«إن فى الظاهرات للحواس، أظهر الله لك الخفيات، لأوضح الدلالة على تدبير مدبّر أول، أعنى مدبرا لكل مدبر، وفاعلا لكل فاعل، ومكوّنا لكل مكوّن، وأولا لكل أولا، وعلة لكل علة، لمن كانت حواسه الآلية موصولة بأضواء عقله، وكانت مطالبه وجدان الحق وخواصه (معرفة) الحق وغرضه الإسناد للحق واستنباطه والحكم عليه. والمزكّى عنده-فى كل أمر شجر بينه وبين نفسه-العقل. فإن من كان كذلك انهتكت عن أبصار نفسه سجوف (٢) سدف الجهل، وعافت نفسه مشارب عكر العجب، وأنفت من ركاكة معالجة الزهو، واستوحشت من تولّج (٣) ظلم الشبهات، وخرجت من الرّيب على غير تبين، واستحيت من الحرص على


(١) رسائل الكندى الفلسفية تحقيق الدكتور عبد الهادى أبى ريدة (طبع مطبعة الاعتماد بمصر) ص ٢١٤.
(٢) سجوف: أستار. سدف: ظلمات.
(٣) تولج: دخول.

<<  <  ج: ص:  >  >>