للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اقتناء ما لا تجد، وتضييع ما تجد، فلم تضاد ذاتها ولم تتعصب لأضدادها.

فكن كذلك، كان الله لك ظهيرا، أيها الصورة المحمودة والجوهر النفيس يتضح لك أن الله، جلّ ثناؤه، وهو الإنيّة (الموجود) الحقّ التى لم تكن ليسا أبدا، لم يزل-ولا يزال-أيس أبدا، وأنه هو الحى الذى لا يتكثّر بتّة، وأنه هو العلة الأولى التى لا علة لها، الفاعلة التى لا فاعل لها، المتممة، التى لا متمم لها. . . وإن فى نظم (انتظام) هذا العالم وترتيبه وفعل بعضه فى بعض وانقياد بعضه لبعض وتسخير بعضه لبعض وإتقان هيئته على الأمر الأصلح فى كون كل كائن وفساد كل فاسد وثبات كل ثابت وزوال كل زائل لأعظم دلالة على أتقن تدبير».

والقطعة تدلّ بوضوح على مهارة الكندى البيانية، وأنها لا تقف عند فصاحة التعبير، بل تتعدى ذلك إلى إدخال تلاوين من التكرار ومن الصور البيانية، وما المعنى الذى يريد أن يوضحه الكندى؟ إنه يريد أن يقول إن ما يبصره الإنسان من ظواهر الكون ويحسه من مشاهده ويراه من نظامه واتساق أجزائه دليل على أن هناك مدبرا أعلى للكون، وضع له قوانينه، التى تحول بينه وبين أى اختلاط أو اضطراب، كما يشهد بذلك نظامه الذى يخلو من كل عوج وخلل وفساد، ولكنه أخرج هذه الفكرة فى صورة فلسفية مطنبة، وهو فى إطنابه لا ينسى خصائص الأسلوب الأدبى وجمال الترادف فيه على نحو ما نرى فى قوله: «أعنى مدبرا لكل مدبر، وفاعلا لكل فاعل، ومكوّنا لكل مكوّن، وأولا لكل أول، وعلة لكل علة»، فقد عبّر عن معنى واحد بخمس كلمات متوالية، ليقوّى المعنى، وليضيف إليه شيئا من الجمال الذى يلاحظ فى التكرار الصوتى. وهو لا ينسى أيضا ما فى الأسلوب الأدبى من روعة التصوير التى تخلب ألباب السامعين، على نحو ما نقرأ فى قوله: «فإن من كان كذلك انهتكت عن أبصار نفسه سجوف سدف الجهل، وعافت نفسه مشارب عكر العجب، وأنفت من ركاكة معالجة الزهو، واستوحشت من تولّج ظلم الشبهات»، والصور متلاحقة فى هذه العبارات، وكأننا بإزاء كاتب أدبى لا كاتب فلسفى. وفى ذلك ما يدل بوضوح على التقاء الفلسفة بالأدب بل على امتزاجهما، فهذا الكندى الفيلسوف يعرض فلسفته فى أسلوب أدبى يشتمل على غير قليل من الروعة البيانية. وتلقانا فى أسلوبه اصطلاحاته الفلسفية كاصطلاح (الإنيّة) بمعنى

<<  <  ج: ص:  >  >>