(الموجود) واصطلاح (ليس) بمعنى المعدوم و (أيس) بمعنى الموجود. وهذه الاصطلاحات لا تجور على العبارات فى الأسلوب، بل يندمج فيها لقدرة الكندى كما قلنا آنفا على المزج بين العبارة الفلسفية والعبارة الأدبية.
وحقّا لم يكن من وراء الكندى من المتفلسفين يبلغون مبلغه فى العربية والوقوف على أسرارها وخصائصها الأدبية ولكن من الحق أنهم جميعا عنوا بفصاحة عباراتهم وسلامتها بقدر ما استطاعوا حتى عند من كان منهم ينادى باتخاذ مقاييس البلاغة اليونانية معيارا للفن البيانى فى النثر. ومرّ بنا فى غير هذا الموضع أنه كانت هناك ثلاثة أذواق: ذوق ينادى بالرجوع إلى اليونان ومعاييرهم البلاغية، وكان يمثله المترجمون السريان ومن التفّ حولهم من الكتّاب الذين كانوا يعكفون على النظر فى علم النجوم وفى المنطق والفلسفة والذين كانوا يتحدثون دائما عن الكون والفساد، وسمع الكيان، والكيفية والكمية، والجوهر والعرض، ورأس الخط النقطة، والنقطة لا تنقسم مما كانوا يقرءونه فى الكتب المترجمة، على نحو ما يصور ذلك ابن قتيبة فى مقدمة كتابه «أدب الكاتب». وكان يقابل هذا الذوق المجدد إلى أبعد حدود التجديد حتى ليرفض المقاييس العربية ذوق كان يرتضى هذه المقاييس، بل كان يرى خطل الاحتكام إلى سواها، فالأدب أدب عربى له ملكاته الراسخة، وله أساليبه الموروثة المصفّاة. وينبغى ألا نعدل عن معاييره الذاتية إلى معايير أخرى ليست من طبيعته ولا من بيئته. وكان يمثل هذا الذوق علماء اللغة المحافظون ومن سار فى فلكهم. وبين الذوقين كان هناك ذوق ثالث معتدل، لا يغلو غلو الأولين فى رفض المقاييس العربية ولا غلو الأخيرين فى رفض المقاييس الأجنبية، بل يقف موقفا وسطا بين الطرفين المتعارضين، فهو يعتدّ بالمقاييس العربية ويأخذ منها ما يوافق العصر ويلائمه، وهو ينظر فى المقاييس الأجنبية ويأخذ منها ما يتفق وروح البيان العربى. وكان يمثل هذا الذوق المتكلمون على نحو ما يلاحظ فى كتاب «البيان والتبيين» للجاحظ، وهو فيه يعرض ملاحظات العرب منذ الجاهلية عن البيان ومقوماته ولا يكاد يترك ملاحظة هنا أو هناك لخطيب عربى إلا ويسجّلها، وينقل عن الهند واليونان والفرس آراءهم-التى استطاع الحصول عليها-فى البلاغة دون أن يعلى فريقا على فريق أو ينصر فريقا ضد فريق.