للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكانت بيئة المتكلمين أسبق من البيئتين الأخريين فى وضع قواعد البلاغة النثرية، إذ أخذت تحاول منذ العصر العباسى الأول وضع هذه القواعد، وكان من أهم ما دفعها إلى ذلك تدريب الشباب على المهارة فى الخطابة والبيان وكيف يتغلب على الخصوم فى حجاجه وجدله. وكانت المناظرات مندلعة بينها وبين أصحاب الفرق الأخرى، وكانت تندلع أحيانا فيما بين أفرادها، فكثر كلامهم عن صفات الخطيب وجهارة صوته ووضوح عبارته وخلابتها وملاءمة كلامه للسامعين وما يحسن من حركاته وإشاراته ودقة أدلته وبراهينه، وكيف يقرع حجة الخصم بالحجة الناصعة وكيف ينقض كلامه نقضا. وأخذوا يحاولون مبكرين التعرف على مقومات البيان العربى، ودار بينهم كلام كثير عن البلاغة وقواعدها البيانية وما ينبغى فى ألفاظ العبارات أحيانا من رشاقة وعذوبة وأحيانا أخرى من جزالة ورصانة، وما ينبغى للمعانى من وضوح مهما دقّت مسالكها. وبحق لاحظ ابن تيمية أن هذه البيئة هى التى فرقت بين الحقيقة والمجاز وأعدّت لمباحث البيان العربى المعروفة (١). ويلقانا فى هذا العصر الجاحظ وكتابه البيان والتبيين الذى ذكرناه آنفا، وهو يشتمل على كل الملاحظات البيانية والبلاغية التى أوصى بها المتكلمون الأدباء، حتى يحوزوا لأنفسهم بيانا ناصعا رائعا. وتهمنا ملاحظات الجاحظ نفسه، لأنه هو الذى عايش العصر، وترك آثارا واضحة فيه، ومن أهم ما ردّده طويلا فكرة مطابقة الكلام للسامعين، فلا يصح لمتكلم أن يكلم العامة بمصطلحات علم الكلام أو يكلم علماء الكلام بكلام الأعراب الممتلئ بالغريب أو بكلام العوام المبتذل المسف يقول: «قبيح بالمتكلم أن يفتقر إلى ألفاظ المتكلمين فى خطبة أو رسالة أو فى مخاطبة العوامّ أو فى مخاطبة أهله. . . أو فى حديثه إذا حدث أو فى خبره إذا أخبر وكذلك من الخطأ أن يجلب ألفاظ الأعراب وألفاظ العوام فى صناعة الكلام، ولكل مقام مقال ولكل صناعة شكل (٢)». ولا يملّ الجاحظ من الدعوة إلى الوضوح، وألا يوجز كاتب ولا عالم فى كلامه حتى يصبح ألغازا، وقد حمل على كتب الأخفش لما فيها من صعوبة وغموض، كما حمل على كل تكلف، يقول: «متى شاكل-أبقاك الله-اللفظ معناه، وأعرب عن فحواه، وكان لتلك الحال وفقا، ولذلك القدر


(١) كتاب الإيمان لابن تيمية ص ٣٤.
(٢) الحيوان ٣/ ٣٦٨ والبيان والتبيين ١/ ١٤٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>