للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لفقا، وخرج من سماجة الاستكراه وسلم من فساد التكلف كان قمينا بحسن الموقع وبانتفاع المستمع» (١). وتحدث كثيرا عن جزالة الألفاظ وعذوبتها وعن تلاحمها وتنافرها وعن حسن موقعها فى مكان وسوئه فى مكان آخر، كما تحدث عن دقة استخدام الكلمات، يقول: «قد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها، وغيرها أحق بذلك منها، ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر فى القرآن الجوع إلا فى موضع العقاب أو فى موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السّغب ويذكرون الجوع فى حال القدرة والسلامة. وكذلك ذكر المطر، لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا فى مواضع الانتقام، والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وبين ذكر الغيث» (٢). ويتوقف مرارا ليشيد بجمال اختيار الألفاظ وجودة الصياغة والسبك وحسن الرّصف والنظم، ونراه ينوّه بالسجع وأثره فى نفوس السامعين (٣)، كما ينوه بالازدواج وما فيه من جمال (٤) صوتى، وكأنه هو الذى أعدّ لهذين الأسلوبين كى يشيعا على ألسنة الأدباء منذ عصره، وكان هو نفسه يستخدم الازدواج كثيرا فى أسلوبه، واستخدم السجع قليلا، وتردّدت على لسانه فنون بديعية وبيانية كثيرة، مثل: الأسلوب الحكيم والاحتراس، وكان يسميه إصابة المقدار، والاعتراض، والكناية والحقيقة والمجاز والاستعارة والتشبيه والتمثيل. وبذلك هيّأ فيما بعد لابن المعتز أن يكتب كتابه البديع مصورا فيه المحسنات البيانية والبديعية وفيه ينص على أن الجاحظ اكتشف بين تلك المحسّنات محسنا عقليّا هو «المذهب الكلامى» ويريد به الجاحظ دقة حيل المتكلمين فى الغوص على الحجج والعلل والمعاذير. وظلت كتابات الجاحظ فى البيان والتبيين وكذلك فى الحيوان مخازن لا تنفد للبلاغيين المتأخرين، كل يأخذ منها حسب ذوقه وقدرته العقلية.

وقدّمت بيئة اللغويين كتبا مختلفة، منها ما يعتمد على رواية الأشعار الغريبة وبعض أخبار عن الأعراب مثل مجالس ثعلب، ومنها ما يعنى بضبط ألفاظ وتفسيرها مثل كتابه «الفصيح»، وأهم كتاب قدمته هذه البيئة كتاب الكامل للمبرد، وهو معرض جيد لنماذج من الشعر والنثر، لا تبلغ فى الغرابة مبلغ نماذج ثعلب فى


(١) البيان والتبيين ٢/ ٧.
(٢) البيان والتبيين ١/ ٢٠.
(٣) البيان والتبيين ١/ ٢٨٤، ٢٩٧، ٤٠٨.
(٤) البيان والتبيين ٢/ ١١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>