للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصوفية وأفكارهم من صفاء الذكر وجمع الهمّ والمحبة والعشق والأنس. وكان هؤلاء الوعّاظ يجذبون إليهم الناس بأكثر مما يجذبهم الوعّاظ العاديون لقيام حياتهم على الزهد والتقشف ورفض كل متاع.

وتكوّنت حول هؤلاء الوعّاظ من المتصوفة سريعا حكايات كثيرة تصوّر جهادهم العنيف فى قمع شهوات النفس ولذاتها وكيف كان الصوفىّ يفرض على نفسه عناء شاقّا مضنيا لا يطيقه إلا أولو العزم. وعادة تحتوى القصة أو الحكاية ما يلفت الصوفى إلى تقصيره وأن عليه أن يتحمل أهوالا ثقالا، فمن ذلك ما يروى عن بشر الحافى المتصوف المتوفى قبيل هذا العصر سنة ٢٢٧ من أنه مرّ ببعض الناس فسمعهم يقولون: هذا الرجل لا ينام الليل كله ولا يفطر إلا فى كل ثلاثة أيام مرة، فبكى حين سمعهم يردّدون هذا الكلام. وسأله سائل:

ما يبكيك؟ فقال: إنى لا أذكر أنى سهرت ليلة كاملة، ولا أنى صمت يوما ولم أفطر من ليلته، ولكن الله سبحانه وتعالى يلقى فى القلوب أكثر مما يفعله العبد لطفا منه سبحانه (١) وكرما. ويحكى عن السّرىّ السّقطى المتوفى سنة ٢٥١ أنه كان إذا أفطر كل ليلة ترك لقمة، فإذا أصبح جاءت عصفورة، وأكلت تلك اللقمة من يده، وذات يوم اشتهى أن يأكل الخبز بالقديد (لحم مقدّد) فامتنعت العصفورة من أكل اللقمة التى تعودت أكلها، فعاهد نفسه ألا يتناول أبدا شيئا من الإدام (٢)! .

ويروى ابن أخته الجنيد أنه دخل عليه يوما، فوجده يبكى، فقال له:

ما يبكيك؟ فقال: جاءتنى البارحة الصبية، فقالت: يا أبت هذه ليلة حارة، وهذا الكوز أعلّقه ههنا، ثم إنى نمت فرأيت جارية من أحسن الخلق نزلت من السماء فقلت لها: لمن أنت؟ فقالت: لمن لا يشرب الماء المبرّد فى الكيزان، فتناولت الكوز، فضربت به الأرض فحطمته (٣). وهما خبران رمزيان يصوران ما كان يأخذ به السّرىّ نفسه من الشظف فى العيش والحرمان الشديد. ويحكى عن رويم بن أحمد المتوفى سنة ٣٠٣، وكان مجردا من الدنيا زاهدا ورعا، أنه اجتاز فى بغداد وقت الهاجرة ببعض الطرقات وهو عطشان، فاستسقى من دار، ففتحت


(١) رسالة القشيرى (طبعة سنة ١٣٤٦ هـ‍ بمصر) ص ٢٠.
(٢) القشيرى ص ١٠.
(٣) القشيرى ص ١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>