للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الباب صبيّة ومعها كوز ماء، فأخذه منها وشرب، فاستدارت له قائلة: صوفىّ يشرب بالنهار! فما أفطر بعد ذلك اليوم قط (١).

وهذه الحكايات الصوفية أخذت تكوّن ضربا من ضروب الآداب الشعبية العربية، إذ كان الناس يتداولونها رجالا ونساء وشيبا وشبّانا، وكأن التصوف كان عاملا قويّا فى ظهور تلك الآداب وطبعها بطوابع الشعب ولغته وألفاظه. وتتصل بها الحكايات التى أخذت تؤثر عن كرامات المتصوفة، ومرّ بنا فى الفصل الثالث أن الحكيم الترمذى المتوفى سنة ٣٢٠ صنّف فى تلك الكرامات كتابا سمّاه «ختم الولاية» يريد ولاية الصوفية وأنهم أولياء الله فى أرضه، ولذلك تظهر على أيديهم كرامات كثيرة. وممن تكثر إضافة الكرامات إليه فى هذا العصر بنان الحمّال المصرى المتوفى سنة ٣١٦، فقد قيل إن خمارويه أمر بأن يطرح بين يدى سبع، فطرح وبقى ليلته. وجعل السبع يشمه ولا يضره. فلما أصبحوا وجدوه قاعدا مستقبل القبلة والسّبع بين يديه. وعجب خمارويه، فأطلقه واعتذر إليه (٢). وحكى أنه كان لرجل على آخر دين: مائة دينار، بوثيقة. فطلب الرجل الوثيقة فلم يجدها، فجاء إلى بنان ليدعو له، لعله يجد الوثيقة الضائعة، فقال له بنان: أنا رجل قد كبرت وأحب الحلواء، اذهب إلى قريح (حلوانى) فاشتر رطل حلواء واثتنى به، أدعو لك، ففعل الرجل، وجاءه. فقال له بنان: افتح ورقة الحلواء، ففتحها، فإذا هى الوثيقة. فقال: هذه وثيقتى. فقال بنان: خذها، وأطعم الحلواء صبيانك. ولم يكن يؤمن بمثل هاتين الكرامتين إلا عوامّ المتصوفة، وهو ما يعنينا، إذ دارت حكايات هذه الكرامات على ألسنة العامة، وبذلك كان التصوف عاملا قويّا فى العصر على ذيوع لون شعبى جديد من الأدب، وهو لون قصصى، وقد أخذت تؤلف فيه المصنّفات مثل كتاب «ختم الولاية» الآنف ذكره، وكانت بدورها مصنفات شعبية تتداولها كثرة من الأيدى. ولعله من المهم أن نعرف أن خاصة المتصوفة وكبارهم فى العصر كانوا ينكرون هذه الكرامات إنكارا باتّا، فيحكى عن أبى يزيد البسطامى المتوفى سنة ٢٦١ أنه قيل له إن فلانا يمشى فى ليلة إلى مكة، فقال:


(١) القشيرى ص ٢١.
(٢) انظر فى هذه الحكاية وتاليتها النجوم الزاهرة ٣/ ٢٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>